قال بعضهم (١) : إنما خاطب به مشركي العرب وأمرهم أن يسألوا أهل الكتاب الذين كانوا يؤمنون بالرسل المتقدمة ؛ ليخبروكم : أنه لم تجعل الرسالة فيهم إلى عامة الخلق إلا في البشر ، وقال بعضهم : إنما خاطب من كفر من أهل الكتاب ـ من لا يعرف الكتاب وغيره ـ بمحمد أن اسألوا أهل الذكر ، أي : من آمن منهم ؛ ليخبروكم أن محمدا رسول الله إليكم إن كنتم لا تعلمون أنتم أنه رسول الله ، [فهذا التأويل في محمد] خاصة والتأويل الأول في جميع الرسل.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ).
قال بعضهم (٢) : ما جعلنا أجسادا لا أرواح فيها لا يأكلون ولا يشربون ، ولكن جعلناهم أجسادا فيها أرواح يأكلون ويشربون ويمشون في الأسواق.
وجائز أن يكون قوله : (وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ) من نحو الملائكة والجن ، ولكن جعلناهم بشرا.
وحاصله : أنهم كانوا يطعنون الرسل بأشياء ، مرة قالوا : (أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) [الإسراء : ٩٤] ، وقالوا : (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) ونحوه ، كانوا لا يرون الرسالة في البشر ، ولا يرون الرسول يكون من نوع المبعوث إليه ، فألزمهم أن الرسل الذين كانوا من قبل الذين صدقهم آباؤهم وآمنوا بهم كانوا من البشر بقوله : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) ، ومرة طعنوا الرسل أنهم يأكلون الطعام ويشربون وينكحون ويمشون في الأسواق كغيرهم من الناس ؛ كقولهم : (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) [الفرقان : ٧] ونحوه ، فألزمهم ـ عزوجل ـ وأخبرهم أن الرسل الذين كانوا من قبل كانوا يأكلون ويشربون ويقضون حوائجهم ؛ حيث قال : (وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ) في الدنيا ، وما قال في آية أخرى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً) [الرعد : ٣٨] ؛ فعلى ذلك الرسول المبعوث إليكم هو كسائر الرسل الذين كانوا من قبل ، هو ممن يأكل ويشرب وينكح وهو رسول ، وأنه بشر كسائر الرسل ، وهو رسول الله ؛ على هذا يخرج تأويل الآية.
وهذه الآية ترد على الباطنية قولهم ومذهبهم ؛ لأنهم يقولون : إن الرسالة لا تكون في الجوهر الكثيف الجسدانى الذي يأكل ويشرب ويفنى ويبيد ، إنما تكون في الجوهر البسيط الذي لا يأكل ولا يشرب ولا يبيد ولا يفنى ، فأخبر ـ عزوجل ـ أنه لم يجعلهم جسدا لا
__________________
(١) قاله البغوي (٣ / ٢٣٩).
(٢) قاله ابن عباس أخرجه ابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٦٣) وهو قول قتادة والضحاك.