الآخرة العدل الذي يعرف به حدود الأشياء وأقدارها ، فيكون الموازين العدل ما ذكر بقوله : (فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) ، أي : لا ينقص من حسناته أو يزاد على جزاء سيئاته ، ولكن يوفى كل جزاء عمله.
ويحتمل أن يكون قوله : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ) على الإضمار ، أي : نضع الموازين التي تكون في الدنيا يوم القيامة بالعدل لا تطفف ولا تنقص ولا تحسر كما تفعلون في الدنيا ، ولكن العدل لا تطفف ولا تنقص ذلك تسوى وتستوفى مستويا من غير زيادة ولا نقصان (١) ؛ لأن الزيادة والنقصان إنما تكون في الشاهد لوجوه : الجهالة ، أو للحاجة ، أو للجور ، فيحمله كله على الزيادة والنقصان ، والله ـ سبحانه وتعالى ـ يتعالى عن ذلك كله ؛ لأنه عالم بذاته غنى بذاته عادل ، فلا وجه للخسران منه والزيادة فيه.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها).
أي : أتينا بجزائها ، أو أتينا بها ، أي : بعينها لا يفوت شيء ولا يغيب عنه.
وليس المراد من ذكر (مِثْقالَ حَبَّةٍ) و (مِثْقالَ ذَرَّةٍ) [النساء : ٤٠] الذرة ، والحبة ، ولكن ذكر على التمثيل ، أي : لا يفوت عنه شيء ولا يغيب ذلك المقدار من الخير والشر غير فائت عنه ولا منسى ، ولكن محفوظ محاسب.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكَفى بِنا حاسِبِينَ).
لا يشغله كثرة الحساب وازدحامه ، ليس كمن يحاسب آخر في الشاهد أنه إذا كثر الحساب عليه وازدحم شغله ذلك عن حفظ الحساب ، والله أعلم.
قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (٤٩) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ)(٥٠)
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ).
فهو ما يفرق بين الحق والباطل ، وبين المشتبه والواضح ، وبين ما يؤتى ويتقى ، وبين ما عليهم ولهم ، والنور : ما يتجلى به حقائق الأشياء ، والضياء هو ما يظهر به حسن ما يتجلى واستنار ، وروح : هو ما به حياة كل شيء ، القرآن سماه : روحا ؛ لأنه به حياة الدين ، وسمى الماء : حياة ؛ لأن به حياة الأبدان ، والمبارك هو ما ينال به ويصل إليه من كل خير ، والذكر : هو ما يذكر ما لهم وعليهم.
(وَذِكْراً). قيل : هو الموعظة ، والموعظة : قيل : هي التي تلين القلوب وتوسع الصدور وتفسح ويخشع بها الفؤاد ، وعلى هذا الوصف جميع كتب الله الذي وصف هذا
__________________
(١) ينظر : اللباب (١٣ / ٥١٢ ـ ٥١٣).