القاذف هي لا تزول أبدا.
أو أن يكون توبته قوله : «فقد كذبت فيما قذفت» ؛ فكنا نردّ شهادته ؛ لتهمة الكذب ، فإذا أكذب نفسه نقبلها ؛ لتحقق الكذب ؛ فهذا بعيد.
وأصله أن كل توبة كانت بعد التمكين فهي لا ترفع الحكم الذي جعل له والحدّ ، وكل توبة كانت قبل التمكين فهي ترفع العقوبات ، كقوله : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) [المائدة : ٣٤] ؛ فلو لم يرفعوا عنهم تلك العقوبات لكانوا يتمادون في السعي في الأرض بالفساد ، وأمّا فيما نحن فيه فليس في ذلك التمادي فيه.
وزعم الشافعي أن حاله قبل الحدّ وبعد ذلك سواء ، هذا خلاف ما نصّ الله عليه ؛ قال الله ـ تعالى ـ : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً ...) الآية ، وقال : (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ) [النور : ١٣] ؛ فجعلهم كاذبين عند العجز عن إقامة الشهداء ، وكان أمرهم قبل ذلك موقوفا ؛ فالواجب أن يجعلهم كاذبين عند عجزهم عن تصحيح ما قالوا ، وهي الحال التي جعلهم الله فيها كاذبين ؛ فبان بما وصفنا أن من جعل حال المحدود بعد أن ضرب الحدّ كحاله قبل ذلك مخطئ.
ودل ما وصفنا على أنه لا يجب أن يستدل بجواز شهادته قبل أن يجلد على جواز شهادته إذا تاب بعد الجلد على ما ذكرنا ؛ لأنا بالجلد علمنا أنه قاذف ، لا بما كان من رميه المرأة قبل أن يجلد.
ومن الدليل على اختلاف الحالين أن عمر لما جلد أبا بكرة قال له : إن تبت قبلت شهادتك ، وأنه قبل أن يجلده لم يرد شهادته ؛ لأنه لو كان عنده مجروحا بالقذف لم يسمع شهادته ، ولا أعلم بين أهل العلم خلافا أنه لا يقبل شهادته بعد الجلد ما لم يتب ؛ وإنما يختلفون في شهادته بعد التوبة ، وأن شهادته قبل الجلد مقبولة ؛ فكيف يشتبه الحالتان مع [ما] وصف؟!
وقال غيرهم : التوبة تزيل فسقه ولا يجوز شهادته ، قالوا : الاستثناء على آخر الكلام على الذي يليه ، وقد روي عن النبي صلىاللهعليهوسلم ما يدل على بطلان شهادته ، وإن تاب : ما روي عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدودا في قذف» (١).
__________________
(١) أخرجه أحمد (٢ / ١٨١ ، ٢٠٤ ، ٢٠٨ ، ٢٢٥) ، وأبو داود (٢ / ٣٢٩ ، ٣٣٠) ، كتاب الأقضية : باب من ترد شهادته (٣٦٠٠ ، ٣٦٠١) ، وابن ماجه (٤ / ٤٣ ، ٤٤) ، كتاب الأحكام : باب من لا تجوز شهادته (٢٣٦٦) ، والدارقطني (٤ / ٢٤٤) ، والبيهقي (١٠ / ٢٠٠) ، بلفظ : «لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ، ولا محدود ، في الإسلام ، ولا ذي غمر على أخيه».