وعن ابن عباس قال : لما نزل قوله : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً) ، وذكر حديث فيه طول ، وفيه : «لم يلبثوا إلا قليلا حتى جاء هلال بن أمية ، وهو أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم ، قال : يا رسول الله ، لقد رأيت فلانا مع أهلي ؛ فقال رسول الله : ما تقول يا هلال؟! قال : والله يا رسول الله ، لقد رأيته وسمعته بأذني ، قال : فشق على رسول الله للذي جاء به ، ثم قال : أيجلد هلال وتبطل شهادته في المسلمين؟! فاشتد ذلك على رسول الله ، وجعل يقول : أيجلد هلال وتبطل شهادته في المسلمين (١)؟!
وقول رسول الله : «يضرب هلال وتبطل شهادته في المسلمين» ، وما ظهر من غمه بذلك وجزعه يدلان على أن المحدود لا تقبل شهادته بعد توبته ؛ لأن توبته لو قبلت ، وكان كسائر الأشياء التي إذا تيب منها ، جازت شهادته ، لقال النبي : «تبطل شهادته في المسلمين إلا أن يتوب» ؛ لأنه لا يقال في شيء من المعاصي : فلان فعل كذا وكذا ؛ فبطلت شهادته في المسلمين ؛ حتى يقرن إلى ذلك : إلا أن يتوب.
وقد ذكرنا عن ابن عباس في قوله : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) ، قال : فتاب الله عليهم من الفسق ، فأما الشهادة فلا تجوز.
وكذلك روي عن كثير من السلف أنهم قالوا : توبته فيما بينه وبين ربّه.
وفيه وجه آخر ، وهو أن القاذف إذا ضرب الحدّ فهو يقول ما لم يرجع : أنا صادق في نفسي ولم يلزمني الحدّ فيما بيني وبين ربي ؛ وإنما لزمني في ذلك الحكم ، فإذا تاب فهو يقول : كان الحدّ واجبا علي فيما بيني وبين ربي وفي الحكم ؛ فذلك أحرى ألا يزول عنه من إبطال شهادته بذلك الحدّ.
ووجه آخر : وهو أن القاذف لم تبطل شهادته بقوله : فلان زان ؛ لأنه مدّع ـ بقوله هذا ـ شيئا قد يجوز أن يكون حقّا ، ولكنه يصير قاذفا إذا عجز عن إقامة البينة وضربه الحاكم الحد ، فإذا كانت شهادته إنما بطلت بحكم حاكم لم يزل ذلك الحكم إلا بحكم حاكم ؛ فإن حكم حاكم : بجواز شهادته في شيء جازت شهادته فيه.
فإن قيل : يلزمكم على هذا أن تقولوا : إن قال حاكم : قد أجزت شهادته في كل شيء أن تجوز ؛ لأن الحاكم قد رفع ما لزم من بطلان شهادته بالحكم الأول.
__________________
(١) أخرجه أبو داود (١ / ٦٨٥ ، ٦٨٦) ، كتاب الطلاق : باب في اللعان (٢٢٥٦) ، وأحمد وعبد الرزاق والطيالسي وعبد بن حميد وابن جرير (٢٥٨٢٨) ، وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٤٣).