قيل : قول الحاكم : قد أجزت شهادته ، ليس بحكم ؛ إنما هو فتوى ، والحكم إنما يكون فيما تقام له البينة ، أو يقع به الإقرار.
فإن قيل : فما تقولون في رجل زنى فحدّه الحاكم : هل تجوز شهادته إن تاب؟ قيل : بلى.
فإن قيل : قد بطلت شهادته بحكم آخر ، وتوبته مقبولة بغير حكم حاكم ؛ فما منع أن يكون القذف مثل ذلك وما الفرق؟
قيل : الزنا فعل ظاهر يعرف به الزاني وإن لم يحد ، والقذف لا يعلم كذب القاذف فيه من صدقه ؛ لأنه شيء يدعيه على غيره ، وإنما يعلم أنه كاذب في قذفه بما ينفذ عليه من حكم الحاكم ؛ فلذلك افترقا.
ومن الدليل ـ أيضا ـ على أن شهادة القاذف إذا حدّ لا تقبل ـ وإن تاب ـ أنه إذا قال : تبت من قذفي فلانا ، وكنت في ذلك كاذبا ؛ فلسنا ندري هل هو صادق في قوله : كنت كاذبا أم هو في قوله ذلك كاذب ؛ لأن المقذوف إن كان في الحقيقة زانيا فقول القاذف : «كنت في قذفي إياه كاذبا» [كذب] منه ، وهو في ذلك آثم ؛ فإذا كنا لا نقف بتكذيبه نفسه على كذبه فيه من صدقه لم نجعله توبة ؛ لأن التوبة إنما تكون أن يظهر عند الحكم من الأفعال ما يعلم بنفسها أنها طاعة وأنه فيها على خلاف ما ظهر من نفسه في الوقت الأول ؛ فلما لم يعرف كذب المكذب لنفسه من صدقه لم يجعل ذلك من توبة.
وقلنا : توبته فيما بينه وبين ربه ؛ لأن الله يعلم هل هو كاذب في تكذيبه نفسه أو صادق ، ونحن لا نعلم ولا دليل لنا من الظاهر عليه ؛ فلم نجعل توبته توبة في الحكم ، وقلنا : حالك الآن كحالك قبل ذلك.
ودليل آخر : أنا قد علمنا كذبه بقول الله : (فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ) ، فإذا قال : كذبت في قذفي ، قلنا له : لم تفدنا بتكذيبك نفسك فائدة لم نعرفها ، فأنت في هذا الوقت كاذب ؛ فإنك في الوقت الأول تعلمنا أنك كاذب ؛ فحالك الآن في شهادتك كحالك قبل ذلك ، على ما ذكرنا.
على أن الشافعي يقول : لا ترجع الملاعنة إلى زوجها ، وإن تاب ، فإذا كانت توبته لا تبطل ما لزمها من الحكم في رجوعها إليه فكذلك لا يبطل ما لزمه من الحكم في بطلان شهادته ، والله أعلم.
وقوله : (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً) ، إن كان الجلد مأخوذا من الجلود فجائز أن يستخرج منه حدّ الضرب ، وهو ألا يجاوز الجلود ؛ ولكن يضرب مقدار ما يتألم به ويتوجع ، ولا