عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ ...) الآية [البقرة : ٢٢٤] ، ذكر أن قوما كانوا يحلفون ألا يبروا الناس ، ولا يصلحوا بذلك أن يكون حلفهم في ذلك عذرا لهم في ترك الإنفاق عليهم ، والتعاون ، والإصلاح بين الناس ، فنهوا عن ذلك ، وذلك اليمين لهم ، ولمن كان في معناهم ، ليس لهم خاصة ؛ فعلى ذلك قوله : (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ ...) الآية ، وإن كان في أبي بكر فهو فيه (١) وفي الذين في معناه.
وإن كان حلف هذا بترك الإنفاق لإساءة كانت منهم إليهم ، والأول على الابتداء لإساءة كانت منهم إليهم ، وكذلك هذه الآيات نزلت لنازلة كانت في عائشة وصفوان فإنما نزلت لتلك النازلة لمعنى لا نزلت لأنها كانت عائشة أو أبو بكر ، لكن لمعنى بكل من وجد ذلك المعنى فيه شرك في ذلك ، ويجعل كأن هذه الآيات كلها نزلت فيه ، وهو ما قال : (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ) فكل محصنة مؤمنة غافلة بريئة مما رميت به دخلت في الآية ، وكل رام محصن مؤمن غافل بريء مما رمي به في الآية ؛ لوجود المعنى الذي نزلت الآية.
وعلى ذلك القرآن إذا نزل بسبب بالمرء أو نازلة لمعنى ، يشترك من وجد فيه ذلك المعنى فيه شرك في ذلك الحكم ؛ فعلى ذلك ما نزل في أبي بكر من النهي بترك الإنفاق ، وما عوده من اصطناع المعروف إليه لما كان منه إليه من الإساءة ، ثم أمره بالعفو والصفح ، وهو قوله : (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا) ، أي : اعفوا عن إساءته واصفحوا أي : لا تذكروا عفوكم إياه عن إساءة ، ولا تذكروا زلته أيضا ؛ لأن ذكر العفو يخرج مخرج الامتنان كقوله : (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) [البقرة : ٢٦٤] ؛ لأن المن والأذى يبطل الصدقة ، وذكر الزلة يخرج مخرج التعيير والتوبيخ ، فأمره بالعفو وهو ظاهر والصفح ما ذكرنا من ترك ذكر العفو والزلة والإساءة جميعا ، والله أعلم.
وقوله : (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ) أي : قد تحبون أن يغفر الله لكم ما كان منكم إليه من الإساءة ، فإن أحببتم ذلك فاعفوا عمن أساء إليكم ، والله غفور رحيم.
وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ) : قد ذكرنا أن المحصنات هاهنا : هن الحرائر ، والغافلات : هن بريئات من الفاحشة ، والمؤمنات ظاهر.
وقوله : (لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) كأن الآية نزلت في المنافقين الذين كان منهم ابتداء القذف وإشاعته في الناس ؛ لذلك ذكر فيهم اللعن ؛ فهو كما قال : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) والمؤمن لا
__________________
(١) ينظر : اللباب (١٤ / ٣٣٥).