وأطنبوا وقد أغمضنا عن إيرادها والنقض والإبرام فيها حذرا من الإطالة وأقول : بعد ما قرع تعالى المبطلين من أهل الكتاب والمشركين والمنافقين شرح سبحانه وأعاد الكلام في أمر القبلة ثانيا وهذه الإعادة ليست للتكرار والتأكيد كما توهم ضرورة انها ليست لأجل التشريع ثانية وثالثة بل وجه الإعادة بالآيتين أنهما سيقا للتشديد في امتثال الأمر وتسلية لرسوله وتأييدا فقال (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ) الآية رغما للمخاصمين (وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) وانك وأوليائك لعلى حق مبين واما أعدائك الذين يريدون إطفاء نورك فما الله بغافل عنهم فسيكفيكهم ويظهرك عليهم ويقطع دابرهم وفي الكلام التفات من الخطاب إلى الغيبة لتحذيرهم وتهديدهم ثم خاطبه وخاطبهم ثالثة قال (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ) الآية فخلطه مع المؤمنين وأمرهم بالامتثال وحذرهم عن الوهن والفشل وعلله بقوله (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) أي اضطرابكم في الأمر وزلزالكم في المقام يوجب تقوية شبهة المبطلين وقيل في وجه تقوية حججهم انهم عرفوا في كتبهم ان النبي الموعود يصلي الى القبلتين وتكون قبلته النهائية الكعبة وهذا البيان أقوى حجة على ما ذكرنا فان التعليل المذكور لا يلائم التشريع بوجه أصلا فإن التشريع فعله تعالى لا فعل المؤمنين انظر الى موقع قوله تعالى (فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي) فهذه الجملة وهذه النصيحة من الله صريحة في التعليل المذكور اي ان الله سبحانه أولى بأن تخشوا منه لعموم قدرته وسلطانه وشدة بأسه لأعدائه المخاصمين فإنهم لن يضروكم أصلا إلا بإذن من الله فلا تعصوه تعالى بمخالفة أمره واطاعة أعدائه فاختلفوا في مصداق هذه النعمة التي يريد تعالى إتمامها وإكمالها جزءا لامتثالهم ولعلها انتشار الدعوة وغلبة الحجة وتكبيت العدو واهتداء الناس الى روح الشريعة والانتفاع بها والاستضاءة بأنوارها والحمد لله الذي هدانا لهذا.
(الآية الخامسة)
قال تعالى (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) (البقرة ١١٥) قوله تعالى (لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) اللام للملك وكون المشرق والمغرب ملكا لله تعالى ليس أمرا اعتباريا مثل الملك الموجود في الاجتماع فإنه إما اعتباري محض وكناية عن جواز الانتفاع من العين بحسب العقل والشرع على ما ذكروه أو من الأمور الواقعية مثل مالكية الإنسان لأفعاله من القبض والبسط والفعل والترك الا ان الإنسان لمكان مملوكيته لله تعالى من حيث ذاته ومن حيث ما كان واجدا لمواهبه تعالى من الحياة والعلم والقدرة ليس ملكه لذاته بذاته وكذلك بالنسبة إلى المواهب التي يجدها والأفعال التي يصدر عنها فلا يكون مالكا لذاته ولا لمواهبه ولا لأفعاله بذاته بل هو مالك بالغير بخلاف مالكيته تعالى للمشرق والمغرب ولجميع ما سواه فان مالكيته ذاتية وهذه المسألة من أغمض المسائل الكلامية وقد عبر عن هذه الحقيقة بعض المحققين عن القيومية لعدم نيلهم