فأمره تعالى لخليله بقوله أسلم ليس هو الإسلام العادي بل هو (ع) بعد ما جلس على كرسي الاصطفاء ووقف موقف القرب وتمكن في مجلس المخاطبة والانس مع كمال مراقبته لشأن الموقف ومحافظته لشرائط الحضور حيث لم يسترسل نفسه ذاك الاسترسال ولم يقل أسلمت لك بل أجاب ربه وخاطبه بما يخاطب به الكبراء والعظماء وقال (أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) فتبين ان المستفاد من الآية الكريمة هو أمره تعالى لرسوله وصفية أن يقول ويظهر للناس في سبيل دعوته الحقة الحسنى ما عليه من التوحيد التام والتبري من الأصنام وعبادتها وما عليه من الإسلام لله والإخلاص في توحيد الذات المقدسة أجنبية عما قيل من اشتراط النية وخلوصها في مقام العبادة. وبعبارة أخرى في مقام إخلاص العبودية لله سبحانه هي العبادة له تعالى.
فان قيل : سلمنا في مقام بيان توحيد الذات فأي مانع لشمولها باشتراط الإخلاص في نية العبادة وفي صحتها أيضا كما قيل.
قلت : كلا فان وجوب الإذعان بتوحيد الذات لا يقاس بوجوب الإخلاص في العبادة فإن توحيد الذات من قبيل الحقائق الثابتة بالعرفان والبرهان والإذعان به واجب عقلا بالضرورة العقلية. والثاني من قبيل المدلولات الأدلة الظاهرية اللفظية بالوجوب الشرعي التعبدي فلا جامع بين المقامين. فالآية في مقام التذكر بما علم بالبرهان والإيقان والإرشاد إلى الحكم العقلي وإخلاص النية واجب شرعي على التعبد بالظواهر.
وأما الفروع المذكورة في المقام فساقط على ما ذكرنا من تفسير الآية.
(الآية الثالثة)
قال تعالى (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) (المائدة ٥٨).
بيان : الولي من أسمائه تعالى الحسنى وقد مجد نفسه وعظمه في كتابه الكريم بهذا الاسم في موارد شتى قال تعالى (وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) (الشورى ٢٨) قال تعالى (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) (البقرة ٢٥٧) قال تعالى (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران ٦٨) وغيرها من الآيات حيث انه تعالى مالك لجميع ما سواه ملكا ذاتيا ويملك جميع الشؤون الراجعة إلى الخلق فله سبحانه السلطان المطلق في التصرف والتدبير والقبض والبسط والإبقاء والافناء وله تعالى ملك التشريع وولاية الأمر والنهي فلا ولاية لأحد على أحد إلا له ولا حق لأحد من الناس تقلد شيء من أمور الناس الا له وبأمره ونهيه ولما كانت الدنيا دار الحجاب والجهل فلا يعرف هذه الولاية التكوينية سيما التشريعية الا من كان عالما بالله وعارفا بنعوته وكمالاته وبحقه وسلطانه تكوينا وتشريعا واما ولاية الناس له تعالى فلا يتصور ولا يعقل