الإطلاق : أن الذين أوتوا الكتاب من قبله هم به يؤمنون ، جائز أن يكون قوله : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) وانتفعوا به يؤمنون به.
أو أن يكون الذي آتيناهم الكتاب فيتلونه حق تلاوته هم يؤمنون به على ما ذكر في آية أخرى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) [البقرة : ١٢١] أولئك يؤمنون به ، وأما من لم يتله حق تلاوته فلا يؤمنون.
فأما أهل التأويل فإنهم صرفوا الآية إلى قوم خاص من أهل الكتاب : عبد الله بن سلام وأصحابه الذين آمنوا به ، وكذا جائز أن تكون الآية في قوم منهم ؛ ألا ترى أنه قال على أثره : (وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) ذكر أهل التأويل : أنهم كانوا آمنوا به قبل أن يبعث محمد ، فلما بعث ثبتوا على ذلك وآمنوا على ما كانوا من قبل.
وفيه دلالة : أن الإيمان والإسلام واحد ؛ لأنهم قالوا : (آمَنَّا بِهِ) ، وقالوا : (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) دل أنهما واحد ؛ وكذلك قوله : (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [الذاريات : ٣٦] وهما واحد ذكر مرة الإيمان ومرة الإسلام ؛ دل أنهما واحد.
وقوله : (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا) : هذا يحتمل وجوها ثلاثة :
أحدها : يؤتون أجرهم مرة بالإسلام ، ومرة بما صبروا على زوال الرئاسة منهم وذهابها ؛ لأنهم كانوا أهل رئاسة ومنزلة وقدر ، فذهب ذلك كله عنهم بالإسلام ، فلهم الأجر مرتين لذلك.
والثاني : يؤتون أجرهم مرتين : مرة بالإسلام ، ومرة بما صاروا قدوة وأئمة لمن بعدهم يقتدون بهم : أحد الأجرين بإسلام أنفسهم ، والثاني بدعائهم غيرهم إليه على ما يعاقب الرؤساء منهم والقادة ، ويضاعف العذاب عليهم مرتين : مرة بضلال أنفسهم ، ومرة بإضلال غيرهم ؛ كقوله : (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) [النحل : ٢٥] جائز : أن يكون إيتاء الأجر مرتين ؛ لما يصيرون أئمة وقدوة لغيرهم في الخير ، ويضاعف عليهم العذاب إذا صاروا أئمة وقدوة في الشر ؛ ألا ترى أنه قال في نساء رسول الله صلىاللهعليهوسلم : (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) [الأحزاب : ٣٠] ، وذلك ـ والله أعلم ـ لما يصرن هن أئمة لغيرهن يقتدين بهن ؛ فعلى ذلك الأول.
والثالث : جائز أن يكون يؤتون أجرهم مرتين بالإسلام نفسه ، ويكون الصبر كناية عن الإيمان ؛ كقوله : (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [هود : ١١] أي : آمنوا وأسلموا.