جعل ذلك على غير ذلك لا يقوم أنفسهم وأبدانهم بذلك ؛ حيث جعل الليل وقتا للراحة والسكون ، والنهار وقتا للتقلب والتعيش ، ولو كان ذلك كله وقتا للراحة لا يقوم أنفسهم أبدا للتعيش والكسب ، ولو كان كله وقتا للتقلب والكسب لا راحة فيه لا تقوم أيضا أنفسهم بذلك ، لكنه ـ من رحمته وفضله ـ جعل لهم وقتا للراحة ، ثم جعله للكل لا لبعض دون بعض ؛ وكذلك ما جعله وقتا للتقلب إنما جعله كذلك للكل لا لبعض دون بعض ؛ ليقوم لهم أسباب العيش ، وما به قوام أنفسهم وأبدانهم ، ولو كان ذلك كله وقتا لأحدهما لم تقم أنفسهم ، ولا بقي هذا العالم إلى الوقت الذي كتب له البقاء إلى ذلك الوقت وهو ما ذكر : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).
وقوله : (أَفَلا تَسْمَعُونَ) ، و (أَفَلا تُبْصِرُونَ) إنما هو سمع عقل وقلب وبصر عقل ؛ كأنه يقول : أفلا تسمعون هذا بالعقل وأ فلا تبصرون بالعقل ، والله أعلم ؛ كقوله : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ ...) الآية [الحج : ٤٦].
قوله تعالى : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٧٤) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ)(٧٥)
وقوله : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) : قد ذكرناه.
وهذه الآيات التي يكررها ويعيدها مرة بعد مرة من قوله : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) [القصص : ٦٥] ، وقوله : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) ، وقوله : (وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) [القصص : ٦٤] ، وأمثال ذلك مما يكثر على علم منه أنهم لا يصدقونها ، ولا يقبلونها ولا يستمعون إليها وإن كررت وأعيدت غير مرة ؛ فهو ـ والله أعلم ـ يخرج على وجهين :
أحدهما : لزوم الحجة لما مكنوا من الاستماع والسماع ، وإن كانوا لا يستمعون إليها.
والثاني : يكون فيه عظة للمؤمنين من وجوه :
أحدها : ليشكروا على ما عصموا من عبادة غير الله ، ووفقوا [إلى] عبادة الله المستحق لها ؛ ليعرفوا عظيم نعمة الله عليهم.
والثاني : ليحذروا عاقبتهم في الرجوع إلى ما هو عليه أولئك الكفرة ، على ما حذر الرسل والأنبياء وأولو العصمة عاقبتهم في الرجوع إلى ذلك ؛ كقول إبراهيم : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) [إبراهيم : ٣٥] ، وأمثاله كثير.
والثالث : خوف المعاملة لئلا يعاملوا هم في العمل كما عامل أولئك في الاعتقاد ؛ لأن المؤمنين وإن خالفوا هم أولئك الكفرة في الاعتقاد في إشراك غيره في العبادة فربما