خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) [الأنبياء : ١٦] فلو جمع بين هذا وبين الأول فهو في الظاهر متناقض ؛ إن يذكر في بعضها : أنه لم يخلقهما وما بينهما باطلا لعبا ، ويذكر في بعضها : أن الحياة الدنيا لهو ولعب ، وهو خلقها.
لكن تأويل قوله : (وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا) على ما تقدرون أنتم وعلى ما عندكم (إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ) ، فأما عند أهل التوحيد وما في تقديرهم فهي حكمة وحق.
ثم ما ذكر من اللهو واللعب عندهم يخرج على وجهين :
أحدهما : أنهم رأوا أنه خلق الإنسان وجعل بدأه من نطفة ، ثم حولها إلى علقة ، ثم إلى مضغة ، ثم إلى الإنسان الذي صور ... إلى آخر ما حوله ؛ فلا يحتمل أن يخلقه ويحوّله من حال إلى الأحوال التي ذكر ، ثم يفنيه بلا عاقبة تجعل لهم ، ولا منفعة ؛ فيكون كما ذكر : (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً) [النحل : ٩٢] صيّر نقضها الغزل من بعد إحكامها إيّاه بلا انتفاع به لهوا ولعبا ؛ فعلى ذلك خلق الحياة الدنيا ، وخلق ما فيها من العالم بعد إحكامه وتحويله حالا بعد حال ، وتحويلا بعد تحويل ، وإحكاما بعد إحكام للفناء خاصة على ما يقدر أولئك الكفرة بلا عاقبة تجعل لهم أو منفعة ـ لهو ولعب وسفه وباطل ؛ على ما ظن أولئك وقدروه ، فأما في تقدير أهل التوحيد وأهل الإيمان من العاقبة لهم فهو حكمة وحق.
والثاني : معنى اللهو واللعب الذي ذكر على ما عندهم هو أن الجمع والتسوية بين العدو والولي وبين العاصي والمطيع وبين المخالف والموافق ـ سفه باطل ، وقد سوى بينهم في هذه الدنيا ، وأشركهم جميعا في نعيمها وسعتها وشدتها ، وخيرها وشرها ، يتمتع الولي فيها كما يتمتع العدوّ ، ويبتلى فيها المطيع كما يبتلى العاصي ، فلو لم يكن دار أخرى فيها يفرق بين الولي والعدو ، وبين المطيع والعاصي لكان خلقه إياهم في الحياة الدنيا سفها وباطلا ؛ إذ سوى بينهم وأشركهم جميعا في هذه.
أو أن تكون الحياة الدنيا ـ على ما اتخذوها هم وعملوا فيها ـ لهوا ولعبا.
أو أن يقال : الحياة الدنيا بحياة الآخرة لهو ولعب ؛ لأنها خلقت فانية منقطعة ، وخلقت حياة الآخرة باقية دائمة ، فهو كما قال : (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ) [النساء : ٧٧] أي : متاع الدنيا قليل عند متاع الآخرة ؛ لأن متاع الدنيا فإن منقطع ، ومتاع الآخرة دائم باق.
وقوله : (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ) أي : هي دار الحياة ، لا موت فيها ، ولا انقطاع ، ولا فناء (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أن الدار الآخرة هي الدار التي لا موت فيها ، والله أعلم.