وصدقوه ، لا من كذب به ، فكيف لا اتبعتموهم؟! لأن العرب من عادتهم لا يزالون محتجين : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) [الزخرف : ٢٣].
وإن كان المراد المعنى الثاني فيقول : إن في آبائكم من قد صدق الرسل ، وآمن بهم ، ومنهم من كذبهم ، فكيف اتبعتم الذين كذبوهم دون الذين صدقوهم؟!
ثم جهة الآية في الفلك ما ذكرنا فيما تقدم في غير موضع : إما في تذكير ما أنعم عليهم حيث سخر لهم ما في البحار والبراري حتى يصلوا إلى قضاء حوائجهم ومنافعهم في الأمكنة النائية البعيدة بالسفن التي أنشأها لهم والأنعام التي خلقها لهم.
أو يخبر عن قدرته وسلطانه : أن من قدر على تسخير هذا وإيصال هذا بهذا ، لا يعجزه شيء ، ولا يخفى عليه شيء.
أو يخبر عن وحدانيته وربوبيته ؛ إذ لو كان ذلك فعل عدد لامتنع ولم يتصل ، ولم يصلوا إلى قضاء حوائجهم.
أو يخبر عن سفههم بعبادتهم الأصنام التي عبدوها ؛ حيث قال : (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ ...) الآية ، يخبر أنا لو شئنا إغراقهم لا يملك الأصنام التي يعبدونها الإغاثة لهم والاستنقاذ من ذلك ، بل هو المالك لذلك ؛ كقوله : (ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٦٧] ، وكقوله : (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) [الأنعام : ٦٣].
وقوله : (إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ).
يحتمل قوله : (إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا) ، أي : لو شاء لأهلكهم ، واستأصلهم بالعناد والتكذيب للرسول كما فعل بأوائلهم ، لكن برحمته أخر عن هؤلاء ذلك ، وجعل لهم متاعا إلى حين ، وذلك منه رحمة ، والذين كانوا من قبل عند رؤيتهم بأس الله ، كقوله : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ ...) الآية [غافر : ٨٤] ، ثم أخبر أنه لم ينفعهم ذلك حيث قال : (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ) [غافر : ٨٥] ، ولكن رحم هؤلاء ؛ لمكان رسول الله ؛ فقبل إيمانهم عند رؤيتهم بأس الله.
وفي قوله : (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ ...) الآية دلالة نقض قول المعتزلة لقولهم في الأصلح ؛ لما لا يخلو : إما أن يكون إغراقه إياهم أصلح لهم في الدين ، أو إبقاؤه إياهم : فإن كان إغراقه إياهم أصلح لهم في الدين (١) ، والله أعلم.
قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٥) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤٦) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ
__________________
(١) كذا في أ.