ويتكلم ، فحيثما جعل ذلك المعنى واللطف نطق وتكلم ؛ وكذلك السمع والبصر وكل جارحة منه من اليد والرجل وغيره جعل لطفا ومعنى به يسمع السمع ، وبه يبصر البصر ، وبه تأخذ وتقبض اليد ، وبه تمشي وتذهب الرجل ، فأينما جعل ذلك اللطف وذلك المعنى كان منه ذلك ما كان من السمع والبصر وغيره ؛ وكذلك الأطعمة والمياه ليس الغذاء في عينها ، ولكن في لطف جعل الله فيها لطفا ومعنى يصير ذلك غذاء لهم ؛ ألا ترى أن عين الطعام تبقى فيرمى به وينتفع بما فيه من الغذاء؟! والله أعلم.
وقوله : (وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ).
قال بعض أهل التأويل (١) : لو نشاء لطمسنا أعين الضلال ، فاستبقوا فلم يبصروا الطريق ، فأنى يبصرون وقد فقأنا أعينهم.
وقال بعضهم : لو نشاء لحولنا أبصارهم من الضلالة إلى الهدى ، فلو طمست : أي : حولت [عن] الكفر ـ لاستبقوا الصراط ، يقول : لأبصروا طريق الهدى ، ثم قال : (فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) يقول : فمن أين يبصرون الهدى إن لم أعم عليهم طريق الكفرة؟!
(وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ).
أي : لأقعدناهم على أرجلهم لا يتقدمون ولا يتأخرون.
ويشبه أن يكون على خلاف هذا على التمثيل ؛ يقول ـ والله أعلم ـ : لو طمسنا أعينهم وأعميناهم فاستبقوا الطريق (فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) ، أي : لا يبصرون الطريق ؛ فعلى هذا إذا طمسنا أعين القلوب فأعميناها ، فأنى يبصرون الهدى ، أي : لا يبصرون.
(وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ).
يقول [ذلك] ـ والله أعلم ـ على التمثيل ، أي : لو حولنا ظاهر خلقتهم وصيرناها خنازير وقردة حتى ذهبنا بمنافع أنفسهم ظاهرة ، فما استطاعوا مضيّا ولا يرجعون ؛ فعلى ذلك إذا مسخنا قلوبهم وحولناها عن مكانها ما انتفعوا بها كما [لم] ينتفعوا بظواهر جواهرهم ، على التمثيل لا على التحقيق.
وفي قوله : (وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ) ، (وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ) دلالة أن لله في ذلك صنعا ؛ إذ لو لم يكن [له] فيما يختارون من الأفعال والأعمال صنع ، لم يكن لتوعدهم على إذهاب ذلك وتحويله عن مكانه معنى ، فدل أن له صنعا في ذلك وفعلا.
قال الحسن وقتادة في قوله : (وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ) فتركناهم عميا يترددون
__________________
(١) قاله الحسن أخرجه ابن جرير (٢٩٢١٧) وهو قول قتادة ومجاهد.