قال أهل التأويل : إن فرعون قال عند ذلك : أنا رب العالمين ، فقالت السحرة : (رَبِّ مُوسى وَهارُونَ).
لكن الامتناع عن هذا وأمثاله مما لم يذكر في الكتاب أولى ؛ لما ذكرنا أنه إنما يحتج عليهم بهذه الأنباء على تصديق من أهل الكتاب له في ذلك ، لما هي مذكورة في كتبهم ، فيخاف الزيادة والنقصان فيكذبون في ذلك ، فيذكر القدر الذي في الكتاب ؛ لئلا يدخل فيه الزيادة والنقصان فيفرق به ويكذب ، إلا ما ظهر عن رسول الله القول به فيقال ، وإلا الامتناع والكف أولى.
ثم قال فرعون : (آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) : إن فرعون قد علم أن ما جاء به موسى هو حجة ، لكنه كان يلبس على قومه وأصحابه ويغريهم عليه ، فقال مرة : (إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) ، وقال : (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) [الشعراء : ٢٧] ، وقال مرة : (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) ، وقال : (إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ ...) الآية [الأعراف : ١٢٣].
ثم أوعد لهم بوعائد فقال : (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) ، فقالوا هم : (لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) أي : إنا إلى ثواب ربنا الذي وعد لنا لراجعون ، لا يضرنا ما توعدنا به.
قال أبو عوسجة والقتبي (١) : لا ضير : هو من ضاره يضوره ويضيره بمعنى : ضره ، وقد قرئ : وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا بالتخفيف بمعنى : لا يضركم.
فقالوا : (إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) : قال بعضهم : (أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) ، وقال بعضهم : أن كنا أوّل أهل مصر إيمانا.
وجائز : أن كنا أوّل المؤمنين للحال.
وقال بعض أهل التأويل : إن فرعون قد فعل بهم ما أوعد من قطع الأيدي والأرجل والصلب ، لكن ليس في الآية بيان حلول ما أوعد بهم ؛ فلا نقول به مخافة الكذب.
قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٥٢) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٥٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (٥٦) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٥٨) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (٦٠) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ
__________________
(١) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٣١٧).