قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (٤) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٥) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٦) وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (٧) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٨) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً)(٩)
وقوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ) يعنون هذا القرآن الذي أنزل على رسوله ، وكان يقرؤه عليهم ، يقولون : ما هذا إلا إفك ـ أي : كذب ـ افتراه من تلقاء نفسه ويخترعه من نفسه.
إن أهل الشرك كانوا يكذبون الأنباء والأخبار من غير أن كانت لهم أسباب التي بها ما يوصل إلى معرفة صدق الأخبار وكذبها ، وذلك كانت عادتهم وهمّتهم ، والأسباب التي يعرف بها صدق الأخبار وكذبها هي الكتب السماوية والرسل التي نطقوا عن وحي السماء ، فكفار مكة لم يكن لهم واحد من هذين ، فكيف ادعوا على رسول الله اختلاق هذا القرآن واختراعه من نفسه ، وأنه مفترى ، على غير كون أسباب معرفة الكذب والصدق لهم في الأخبار ، مع ما ظهرت لهم آيات رسالته وأعلام صدقه في الأخبار ؛ حيث لم يؤخذ عليه كذب قط ، ولا رأوه اختلف إلى أحد من أهل الكتاب ، ولا كان يحسن أن يخط بيده كتابا ، وما قرع أسماعهم من أول الأمر إلى آخر الأبد قوله : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [البقرة : ٢٣] ، وقوله : (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ) [هود : ١٣] فدل عجزهم وترك تكلفهم ذلك على أنهم عرفوا أنه من عند الله ، وأنهم كذبة في قولهم : إنه إفك مفترى.
وقوله : (وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) ، وقالوا : إنه إفك مفترى ، وأعانه على ذلك قوم آخرون في افترائه واختراعه ، وهم قوم من أهل الكتاب أسلموا ، وقد كانوا يجدون في التوراة والإنجيل نعته وصفته ، وما كان أنبأهم رسول الله ويخبرهم من الأنباء المتقدمة والأخبار الماضية ، فأخبروهم بذلك حين سألهم أولئك المشركون عما يخبرهم رسول الله ، وقالوا : إنه كما يقول ، وإنه صادق في ذلك كله ، وإنا نجد ذلك في كتابنا ، فلما سمعوا ذلك من أهل الكتاب ما سمعوا من تصديقهم إياه ـ عند ذلك قالوا : (وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ).
ثم أخبر أنهم (جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً) ، أما قوله : (ظُلْماً) لأنهم كذبوه ، و [قالوا :] إنه مفترى من غير أن كان لهم أسباب الكذب والصدق ، فهو ظلم ؛ حيث وضعوا ذلك [في] غير موضعه. وأما قوله : (وَزُوراً) لأنهم قالوا : إنه مختلق ، وإنه سحر ، وإنه (إِنَّما يُعَلِّمُهُ