الأصلح في الدين وأعطى الآخر لكان لا يستوهب الملك إذ كان الملك له أصلح في الدين ، ولكن يقول : أعطني حقي ، فدل استيهابه منه الملك على أن ليس عليه حفظ الأصلح في الدين ولا إعطاء الأخير ، وأن له ألا يعطيه ، وأنّ إعطاءه الملك له فضل منه ورحمة ، والله أعلم.
فإن قيل : فيه تفضيل الغنى والسعة على الفقر والضيق ؛ لما أن الله ـ عزوجل ـ جعل الغنى والسعة آية من آيات النبوة والرسالة ، ولم ير الفقر والضيق جعلهما آية من آيات النبوة ، فهلا دل جعل الغنى آية من آيات النبوة على أنه أفضل من الفقر؟
يقال لهم : إن الغنى والملك إنما جعله آية لرسالة نبي واحد ، وأكثر الأنبياء ـ عليهمالسلام ـ كانوا فقراء وأهل الحاجة والضيق في أمر الدنيا ، فمع ما كانوا ما ذكرنا من الضيق والفقر وقلة أعوانهم وأنصارهم نفذ قولهم وظهر ما دعوا الناس إلى ما دعوهم وهو التوحيد والإسلام ، مع وجود رغبة الناس فيمن عنده السعة والغنى ، ونفارهم ، وقلة رغبتهم فيمن عنده الفقر والضيق ؛ فدل اختيار أكثر الأنبياء الحال التي ينفر طباع الناس عنها على الحال التي يرغبون فيها مع حرصهم ورغبتهم في الدين ـ على أن الحال التي اختاروا هم أفضل وأخير من الحال الأخرى ، والله أعلم.
وكذلك قوله ـ عزوجل ـ لرسول الله صلىاللهعليهوسلم : (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) [الحجر : ٨٨] نهاه أن يمد عينيه إلى ما متعوا هم ، على العلم منه أن لو مد عينيه إلى ذلك ويختاره إنما يمد ويختار ليتبعه قومه وأصحابه في أبواب الشرف والخير ، وأنه لا يختار ولا يأخذ إلا ما يحل ويطيب ؛ فدل النهي عما ذكر على العلم منه ما وصفنا على أن ذلك أفضل من الآخر ، والله أعلم.
قوله تعالى : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (٤٢) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٤٣) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)(٤٤)
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ).
ثم لا ندري ما الذي كان من الله من تمكين الشيطان عليه حتى أضاف ذلك إلى الشيطان ، وليس لنا أن نقول : إنه مكن عليه كذا ، وفعل كذا في كذا ، وفعل به كذا ، إلا أن يثبت عن الله.
ثم وجه الحكمة في تمكين الشيطان على أوليائه فيما مكن في أمر الدين ؛ ليعلم جهة الفضل من جهة العدل وجهة الحكم من جهة الرحمة ، وأن له أن يمتحن عباده بما شاء