حبسها وكفها في احتمال ما حملت من الشدائد والمصائب والمؤن العظام ، احتملوا ذلك ولم يجزعوا ، وهو ما ذكر في غير آي من القرآن : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ ...) الآية [البقرة : ١٥٥] ، وقوله : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء : ٣٥] ونحوه.
قوله تعالى : (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (١١) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣) قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (١٤) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١٥) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ)(١٦)
وقوله : (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ. وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ).
يحتمل أن يكون قال هذا ؛ لما أن أهل مكة كانوا يدعون رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى دينهم ودين آبائهم ، وكانوا يطمعون عوده إليهم ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ. وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) ذكر هاهنا أنه أمر أن يعبد الله مخلصا له الدين ، وقال في آية أخرى : (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ...) الآية [الأنعام : ٥٦] ، وقال في آية أخرى : (قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً ...) الآية [الأنعام : ٥٦] ، أخبر أنه لو اتبع أهواءهم فيما هم فيه يضل وما كان من المهتدين ، ذكر في هذه الآيات النهي وترك اتباعه أهواءهم ، ولم يذكر الأمر فيها بعبادة الله تعالى مخلصا له الدين.
أو أن يقول : إني إذا أمرتكم بعبادة الله أمرت أنا أيضا في نفسي أن أعبده مخلصا ، لست أنا كمن يأمر غيره شيئا ولا يأتمر بنفسه ، أو هو غير مأمور بذلك وهو ما قال : (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ).
أو يقول : لست أنا كالملوك يأمرون أتباعهم بأشياء ويستعملونهم في أمورهم [و] لا يستعملون في ذلك أنفسهم ، والله أعلم.
وقوله : (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ).
الخوف هاهنا ليس هو حقيقة الخوف ، ولكن العلم كأنه قال : إني أعلم إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ، فآيسهم بالله بالمدينة عن عوده إلى دينهم ، وقطع طمعهم عنه ، وهو ما قال ـ عزوجل ـ : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) [المائدة : ٣] فأما ما داموا بمكة فإنهم كانوا طامعين في ذلك راجين فيه ، والله أعلم.
وقوله : (قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي. فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ).
إنه يخرج هذا الحرف منه مخرج التهدد لهم والتوعد ، يقول : أما أنا فإنما أعبد الله الحق وله أخلص ديني ، فاعبدوا أنتم ما شئتم فإنه يجزيكم جزاء عبادتكم ، كقوله تعالى :