أحدهما : يقول : لم أكن أعلم أن الله يهديهم للإيمان والتوحيد من بينكم ـ يعني : الضعفاء ـ ويدعكم لا يهديكم.
ثم قال : (إِنْ حِسابُهُمْ) أي : ما جزاء الذين اتبعوني من الأراذل (١) (إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ).
والثاني : (وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) ، أي : ما أنا بعالم بما يعملون هم في السر وما ذلك عليّ ، (إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ) ، أي : حسابهم عليه فيما يعملون في السر ؛ فهذا يدل أن التأويل الأخير أشبه وأقرب من الأول ، وكان من أولئك طعن في الذين آمنوا بأنهم يعملون في السر على خلاف ما أظهروا ، حتى قال لهم ذلك.
وفي بعض القراءات (٢) : لو يشعرون بالياء ، فهو راجع إلى المؤمنين الذين اتبعوه ، يقول : حسابهم على الله فيما يعملون في السر ، أي : لو يشعرون ذلك ولا يعملون في السر خلاف ما يعملون في العلانية ، والله أعلم.
وقوله : (وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ) : قال أهل التأويل (٣) : إنهم سألوا نوحا أن يطرد أولئك الذين آمنوا به من الضعفاء ؛ حتى يؤمنوا هم به ، فقال عند ذلك : (وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ).
وجائز أن يكونوا طعنوا في الذين آمنوا أنهم قالوا ظاهرا ، وأما في السر فليسوا على ذلك ، فقال نوح عن ذلك : وما أنا بطارد الذين آمنوا ؛ يدل على ذلك قول نوح حيث قال : (وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً) [هود : ٣١] ، هذا القول منه يدل على أن كان منهم طعن في أولئك الذي آمنوا به ، حيث وكل أمرهم إلى الله فقال : الله أعلم بما في أنفسهم ، والله أعلم.
وقوله : (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) : قد ذكرناه فيما تقدم في غير موضع.
وقوله : (قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) : المرجوم : هو المقتول بالحجارة ، وهي أشد قتل ؛ لذلك أوعدوه.
وقال بعضهم (٤) : لتكونن من المشتومين باللسان.
لكن الأول أقرب ؛ لأنه قد كان منهم الشتم فلا يحتمل الوعيد به.
ثم دعا نوح عند ذلك فقال : (رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ. فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً) أي : اقض
__________________
(١) ينظر : اللباب (١٥ / ٥٧).
(٢) وبه قرأ الأعرج وأبو زرعة وهو التفات ، ولا يحسن عوده على المؤمنين ، ينظر : اللباب (١٥ / ٥٨) ، القرطبي (١٣ / ١٢١).
(٣) قاله ابن جرير (٩ / ٤٥٨).
(٤) قاله قتادة أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ١٦٨).