إلا بكذب وباطل ، فمن لا ينزل إلا بكذب وباطل لا ينزل إلا على كذاب أفاك ، وكان معلوما عندهم أن محمدا لم يكذب قط ولا أفك أبدا ؛ إذ لم يأخذوه يكذب فيما بينهم قط ، فيقول ـ والله أعلم ـ كيف يتنزل عليه الشياطين وهو معروف عندكم أنه ليس بكذاب ولا أفاك ، وقد تعلمون أن الشياطين لا ينزلون إلا بكذب وباطل؟! على هذا يخرج تأويل هذه الآيات ، وإلا على الابتداء لا يحتمل أن تكون.
ثم أخبر عن صنيع الشياطين فقال : (يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ) :
قال بعضهم : يلقي الشياطين بآذانهم إلى السمع في السماء لكلام الملائكة ، وذلك أن الله إذا أراد أمرا في الأرض علم به أهل السماء من الملائكة ، فيتكلمون به فيسمع الشياطين ذلك ، فيخبرون به الكهنة ، فيخبر الكهنة أهل الأرض بذلك ، فيقولون : إنه يكون في الأرض كذا في وقت كذا ، ثم قال : (وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ) ـ على هذا التأويل ـ : وأكثر الشياطين كاذبون فيما يخبرون الكهنة من أخبار السماء.
وقال بعضهم (١) : إن الجن كانوا يصعدون إلى السماء فيسترقون أسماعهم إلى السماء ، فيسمعون من أخبار أهلها ، ثم ينزلون به على الكهنة ، ويسمع الكهنة ـ أيضا ـ من أخبار الرسل ، ويخلطون ما سمعوا من الرسل من الحق بما سمعوا من الشياطين.
وقال بعضهم : كانوا يسمعون من الجن حقّا ، لكنهم يخلطون من عند أنفسهم كذبا ، فيحدثون به الناس ، حتى إذا كان الناس يتركون ما يسمعون منهم من الكذب ، حدثوهم بذلك الحق الذي نزل به من السماء ، ويراجعونهم ويصدقونهم ؛ فذلك قول الله : (وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ) أي : أكثر قولهم كذب ، والله أعلم بذلك.
وقوله : (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) قال بعضهم (٢) : رجلان شاعران كانا على عهد رسول الله صلىاللهعليهوسلم : أحدهما من الأنصار ، والآخر من قوم آخرين ، فهجوا رسول الله وأصحابه ومع كل واحد منهما غواة من قومه ؛ فذلك قوله : (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ).
قال : فاستأذن شعراء المسلمين النبي أن يقتصوا من المشركين ، فأذن لهم النبي ، فهجوا المشركين ومدحوا النبي صلىاللهعليهوسلم وذلك قوله : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ؛ أخبر في الأول : (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) ، فاستثنى شعراء المسلمين بقوله : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا).
__________________
(١) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير (٢٦٨٢٨) ، وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٥ / ١٨٤).
(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٦٨٣٨) ، وعن الضحاك (٢٦٨٣٩) ، وانظر : الدر المنثور (٥ / ١٨٥).