متجاورات بعضها بعضا ، وقطع الأسرار متجاورات بعضها بعضا ؛ فقطع النفوس مالحة ملحها الهوى ، وقطع العقول عذبة بعذب العلم ، وقطع الأرواح طيبة بطيب المعرفة ، وقطع الأسرار لطيفة بلطف الأنوار متقاربة بعضها بعضا ؛ فقطعة النفوس تنبت شوك الشهوات ، وقطعة العقول تنبت نورة العلوم ، وقطعة الأرواح تنبت زهر المعارف ، وقطعة الأسرار تنبت كواشف الأنوار (وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ) العشق يسكر منها الأرواح ، وفيها زرع دقائق المعرفة تأكل من حبها العقول ؛ فترى بها أنواع المعاملات ، وفيها يحيل الإيمان ثمرها الإيقان يأكل منها أطيار الأسرار.
قال الله تعالى : (صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ) إيمان مع يقين وعرفان من غير علة الاستدلال ، ورؤية الايات سقي هذه البساتين من زلال قاموس الكبرياء لقوله : (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ) أصل سقيها من عيون الإلوهية بوصف تجليها ، وهو واحد منزه عن الأكوان والتغاير لسقيها من سواقي الصفات في جداول الأفعال ، فلما وصل مياه التجلي ، وأنوار الصفة إلى عالم الفعل ، يورث كل صفة الفعل نوعا من هذه الأشجار والأزهار ، ففرع الفعل يتلون بألوان الأحوال ، وإن كان أصل منزها عن العلل وتغاير الحدثان ، وبعض المقام أشرف من بعض لقوله : (وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) ورد المعرفة أنور من نرجس المحبة ، ونرجس المحبة من ياسمين الإرادة ، وثمر المشاهدة أطيب من ثمرة المراقبة ، وهذه الإشارات من الله سبحانه لا يعرفها إلا العالمون بالله بعقول صافية من الأكدار ، وقلوب حاضرة مشغولة بالله عن الأغيار لقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) فالعقل ربق الربوبية في مواطن الفطنة والفطرة يزم بها الحق قلوب الخلق ويجريها إلى العبودية لوجدان المعرفة والقربة ؛ فمن وافق حاله مع الله في معرفته حال واحد من أوليائه ؛ فهما من أصل واحد من غير تباين وتفرق.
كما روى جابر عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال لعلي رضي الله عنه : «الناس من شجر شتى ، وأنا وأنت من شجرة واحدة» ، ثم قرأ النبي صلىاللهعليهوسلم : (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ ...) حتى بلغ : (... يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ).
وقال الحسن البصري : هذا مثل ضربه الله لقلوب بني آدم كانت الأرض في يد الرحمن طينة واحدة فسطحها وبطحها ؛ فصارت الأرض قطعا متجاورة ؛ فينزل عليها الماء من السماء فيخرج هذه زهرتها وثمرتها وشجرها ، ويخرج نباتها ويحي موتاه ، ويخرج هذه شجرها وملحها وخبثها وكلتاهما يسقى بماء واحد ؛ فلو كان الماء ملحا ، قيل : إنما هذه من قبل الماء