يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ) غفر لهم علل الحدوثية ، ورحمهم بأنه ألبسهم لباس الربوبية حتى بقوا به معه من غير زوال ، وأن عذابه هناك لو أطلق عنانه يحرق الجمهور بنيران سر كبريائه وحقيقة أوليته ، أخبر عن تلك الصفتين ما أخبر عن مباشرة صفة القهر ، بل أخبر عن استغراقهم في بحر رحمة مشاهدته وغيبوبتهم في حجال وصلته ؛ فإنه الغفران الحقيقي.
قال سبحانه : (لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ) وانحسم باب القهر بقوله : (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) ، وأيضا أخبر عن الوصفين من أوصاف المغفرة والرحمة ، وهما في الحقيقة صفتان قديمتان باقيتان ، وأن عذابه صفة فعله ، وإذا قورن الفعل بالصفة لزال الفعل في الصفة ، فإذا مقام الرجاء أقوى من مقام الخوف ؛ لأن الرجاء من شقائق الإنس ، والبسط وهو باق أبدا مع العبد ؛ لأنه من تأثير تلك الصفة ، وزال الخوف ؛ لأن في جواره لا يبقى الخوف ، ألا ترى إلى قوله : (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) بزوال العذاب ، وغيبة الفعل في الصفة.
قال ابن عطاء : أقم عبادي بين الخوف والرجاء ليصحّ لهم سبيل الاستقامة في الإيمان ؛ فإن من غلب عليه رجاؤه عطّله ، ومن غلب عليه خوفه أقنطه.
قال الجنيد في هذه الاية : النبأ سابق إليهم في الدنيا باجتماعهم في الاخرة ، فلذلك لا يشكون ولا يضعفون ، ويطيقون حمل البلاء فهم في سعة من العيش في كل حال ، كل ذلك لسعة علمهم بالله ، وسكونهم إلى مواعيده فحملوا الحقوق ، وما خفي عليهم شيء مما خفي على غيرهم ، وهم مشرفون بالله على ما له منهم ، وما لهم عنده.
وقال ابن عطاء : إن الله تعالى وصف نفسه بالفضل والعدل ، ولا يوصل فضله إلى عبد إلا أنجاه من كلّ بلية وهمّ ، ولا وضع عدله على أحد إلا أهلكه ، وأوصل عدله إلى إبليس مع طول عبادته التي توهم أنها تنجيه ، وتقربه إلى ربه ، فأبعده بعدله ، وأخزاه إلى أبد الأبد ، وأوصل فضله إلى السحرة ، وهم يقولون لفرعون : بعزتك ، فردهم مما هم فيه بفضله إلى محل السعداء ، فتلاشى كفرهم ومعصيتهم.
(قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (٥٥) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (٥٦) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (٦٠) فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٦٤) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ