أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (٦٥) وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (٦٦) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (٦٧) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (٦٨) وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ (٦٩) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (٧٠) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٧١))
قوله تعالى : (قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) ثم إنّ الله سبحانه إذا أغلق باب الفراسة على الأنبياء والصدّيقين لا يرون مرقومات المقدرات ، ولا يعلمون بحقائق المغيبات.
ألا ترى كيف غاب حديث رؤية روح إسحاق عليهالسلام ويعقوب عليهالسلام عن الخليل عليهالسلام حتى قنط من نفسه أن يكون ذلك في كبره ، ولو رأى ذلك في سرّ القدر لم يقل : (أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ) ، ولم يكن شاكا في قدرة الله ، ولكن لم ير هناك في ذلك الوقت ما عند الله من مكنون سره ، وأيضا كان في كبر سنه هائما في أودية الخلة ، مستغرقا بوصف الشوق في بحار المحبة ، مستأنسا بجمال المشاهدة ، مستوحشا من أحكام الحدوثية ، فقال : أي وقت لتربية الولد ، وإني كنت على جناح سفر الوصلة ، وتصديق ذلك قوله : (فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) أي : بأي شيء تبشرون ، وإني غائب في الحق.
وأصل النكتة في هذا : إن الخليل رأى في سطور مقدرات الغيب بنور النبوة اسم إسحاق عليهالسلام ويعقوب عليهالسلام ، ورأى بروحه روحهما ، فقال : أبشرتموني على أن وصل إليّ الكبر ، وبلغني الحق إلى درجة الشيخوخة ، ولا يخفى مثل ذلك عليّ ، (فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) ، وإني أرى بنور نبوتي ما لا ترون بنور الملكية.
قال الجوزجاني : أيام الكبر أيام القنوط من الدنيا وما فيها ، والإقبال على الاخرة ، وما عند الله.
ألا ترى أن إبراهيم عليهالسلام لم يقبل بشرى الولد من الملائكة عند الكبر ، فقال : (أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) إلى أن ذكروا أن البشرى له من الله فزال عنه القنوط لعلمه بقدرة الله على ما يشاء (١).
__________________
(١) في قوله : (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) يشير إلى لوط : الروح ، وأهله : قواه ، فإن المؤمن يستأنس بالمؤمن ، والجنس إلى الجنس يميل ، والليل إشارة إلى ليل الجلال المقتضي للفناء المنتهى إلى الجمال المستلزّم للبقاء ، وفيه إن الأرض تطوى في الليل ، كما ورد : «عليكم بالدلجة» فإن الأرض تطوى في الليل ، والدلجة : السير في الليل ، ومن ذلك كان عبادات العباد في الليل أكثر ، وكانوا يستحلّونها لما