وقال محمد بن الخفيف : الفراسة مقسومة على ثلاثة أوجه :
الأول : إصابة المكنون من الأوقات المستكن في النفوس من الأحوال المستخفية من حمل عوام الخلق ، وذلك مخصوص به الرسل لما كان للنبي صلىاللهعليهوسلم في عبد بن زمعة حين قال : «إن أمرها لبيّن ، لو لا حكم الله».
والثاني : تجلي ما استودع الحق في النفوس من الأحكام المخفية على الخلق المتفرد به الحق ، وكشف ذلك لأهل التخصيص من الصديقين والأولياء بعد الأنبياء ، كما قال أبو بكر الصديق لعائشة ـ رضي الله عنهما : «إنما هما أخوك وأختاك» (١).
والثالث : ذكر اطلاع القلوب عندما انكشف له من الغيب البعيد ، وهذا مقرون بالإلهام ، كما قال عمر بن الخطاب : «يا سارية ، الجبل الجبل» (٢).
سئل الجنيد عن الفراسة ؛ فقال : آيات الربانية تظهر في سماء العارفين ، فتنطق ألسنتهم بذلك ، فتصادف الحق.
وقال الحسين حين سئل عن الفراسة ؛ فقال : حق نظر عن أحد نظرا إياه ، فخبر عن حقيقة ما هو إياه بإياه.
(وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (٨٥) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨٦) وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١))
قوله تعالى : (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) الصفح الجميل ما يكون برؤية تقدير الأزل بنعت شهوده مقدور الغيب بوصف السرور في مباشرة الأمر ، والنشاط بالرجوع إلى الحق ، وسابق أمره ومشيئته فيما جرى عليه بالواسطة من الغير ، فإذا كان كذلك سقط الملامة بسقوط الوسائط ، وحصل الرحمة على المجرم المجبور بأمر التقدير.
ألا ترى كيف أشار بتمام الاية إلى سرّ ما سبق من التقدير الأزلي بقوله : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) أي : ما هجم عليك من إيذاء قومك هو مخلوق الخلائق ، وتقديره في تربيتك ، وإبلاغك إلى مقام أولى العزم ، وهو عليم بما قدّر ، وبما يكون من اتصافك بخلقه العظيم ، وإن
__________________
(١) ذكره الطحاوي في «شرح معاني الاثار» (٢ / ٥١٤).
(٢) ذكره العجلوني في «كشف الخفاء» (٢ / ٥١٤).