القلوب كيف أجرى فيها أنهار المعرفة والمكاشفة والمحبة والشوق والعشق والحكمة والفطنة ، وأوضح فيها سبلا للأرواح ، والعقول والأسرار ، منها إلى الحق ، وتلك السبل بلا نهاية ؛ لأن الطرق إلى الله غير متناهية ؛ لأنه تعالى غير متناه ، فبعض سبلها للعقول إلى أنوار الايات ، وبعض سبلها للأرواح إلى أنوار الصفات ، وبعض سبلها للأسرار إلى أنوار الذات ، وأنّ الله سبحانه يظهر بجلاله وجماله في تلك السبل ؛ لإسراره القلوب كشفا عيانا ، ولو لا ذلك الكشوف والظهور لم يهتد الأرواح والعقول والأسرار إليه.
قال تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أي : تهتدون به إليه ، ثم زاد تسبب العرفان بأن يريهم علامات مشاهدته من لوائح كشف الملكوت وأنجم الجبروت.
قال تعالى : (وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) العلامات في الظاهر أنوار الأفعال للعموم ، وأخصّ العلامات في عالم الأولياء والنجوم وأهل المعارف الذين يسبحون في أفلاك الديمومية أرواحهم وقلوبهم وأسرارهم ، من اقتدى بهم يهتدي إلى مقصوده.
ألا ترى إلى قوله عليهالسلام : «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» (١).
ما أنور علامات سمات القدوسية في وجوه الصديقين ، وما أزهر نجوم أرواحهم متقلبات في أشباحهم ، لطلب معادن القدس رياض الأنس ، من نظر إلى وجوههم بالحقيقة يرى أنوار الحق من وجوههم وقلوبهم.
قال المالكي : طريق الهداية أعلام ، فمن استدل بالأعلام بلغ إلى محل الهدى ، وكوشف عن معدن النجوم ، ومن استدل بنجوم المعرفة ، مر في طريق الهداية ، كان عالما بمسراها وصل إلى غاية المنتهى من الطريق ، ولا دليل على الحق سواه ، ولا علامة يخبر عنه ، فهو الدليل على نفسه ، ليس لأحد إليه سبيل ، ولا لخلق عليه دليل ، فمن وصل إليه فيه وصل ، ومن انقطع عنه فبسوابق لقائه عليه انقطع.
ثمّ إنّه سبحانه جعل ما وصف من نعمة بلا نهاية ، بقوله : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) نعمة سوابق نعم عنايته ، وهي أزلية أبدية والحوادث عن حصرها قاصرة ونعمة المعرفة في قلوب العارفين ، وله نعمة التوحيد في قلوب الموحدين ، وله نعمة المحبة في قلوب المحبين ، وله نعمة الشوق في قلوب المشتاقين ، وله نعمة الأنس في قلوب المستأنسين ، وله نعمة الإرادة في قلوب المريدين ، وله نعمة الإيمان في قلوب المؤمنين ، وله نعمة الإسلام في قلوب
__________________
(١) رواه الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» (٣ / ٦٢) ، وذكره العجلوني في «كشف الخفاء» (١ / ١٤٧) ، والمناوي في «فيض القدير» (٤ / ٤٣٢) ، وابن حجر في «لسان الميزان» (٢ / ١٣٧).