تحت أثقال برجاء وحيه ، ألا ترى إلى قوله تعالى : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) [المزمل : ٥] وهو الملقي ، وهو الحامل ، ولو لا قوته الأزلية بإعانته ، لطاش في أول سماع يسمع من كلامه وروح القدس مع جميع الأرواح المقدسة من فيض تجلي قدس جلاله ، فكلها تكون قدسية ، فأي روح قدسه عليها أكثر ، فهو أظهر في قدسها لا يلتصق بها الملل والحوادث.
قال الواسطي : الأرواح ليس لها نوم ولا لذة ولا موت ولا حياة ، بل هي جوهرة لطيفة للطفه ، فسمي روحا ، أو للطف جبرائيل ، سمي روح القدس.
(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠))
قوله تعالى : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا) إنّ الله وصف المريدين الصادقين حين هاجروا من حظوظ أنفسهم بعد ذوقهم طعم معصية الله ، وبعد وقوعهم في محل امتحانه ، فلمّا خرجوا من تحت مراد النفس والهوى ، وجعلوهما منكوسين ، وباشروا عبودية الله ، وجاهدوا في محاربة الشيطان حين دعاهم إلى منازل الفترة ، وصبروا على ترك الهوى في متابعة الله (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ) لما جرى عليهم في سالف الأيام من الذنوب (رَحِيمٌ) بهم أي بأن يحفظهم من المراجعة إلى حظوظ النفس ، ومرادها وأنه تعالى يذيقهم طعم الأنس بحيث لا يطيقون أن يفتروا من طاعته لمحة.
قال سهل : هاجروا قرناء السوء بعد أن ظهر لهم منهم الفتنة في صحبتهم ، ثم جاهدوا أنفسهم على ملازمة أهل الخير ، ثم صبروا معهم على ذلك ، ولم يرجعوا إلى ما كانوا عليه من بدء الأحوال.
(يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١١١))
قوله تعالى : (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) الأنفس بالتفاوت ، فنفس تجادل عن معصيتها ، ونفس تجادل عن طاعتها ، ونفس تجادل عن خوفها من النار ، ونفس تجادل عن طمعها في الجنة ، وهؤلاء الأنفس مشغولة بمجادلتها عن مشاهدة خالقها والشوق إلى لقائه ، والنفس المنبسطة العاشقة الهائمة ينبسط إلى ربها ، وتدل عليه دلال عاشق على معشوقه ، وشائق على مشوقه ، وتقول في مجادلتها وانبساطها : إلهي فعلت بي ما فعلت في الدنيا ، ابتليتني ببلايا محبتك ، وعظائم الشوق إليك ، وحبستني في دار الامتحان مع أعدائي ،