(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) (١) أي : ليس من عالم الخلق ؛ حتى يمكن تعريفه للظاهرين البدينين الذين لا يتجاوزون إدراكهم عن الحس والمحسوس بالتشبيه ببعض ما شعروا به والتوصيف ، بل من عالم الأمر أي : الإبداع الذي هو عالم الذوات المجردة عن الهيولي والجواهر المقدسة عن الشكل واللون والجهة والأين ، فلا يمكنكم إدراكه أيها المحجوبون بالكون ؛ لقصور إدراككم ، وعملكم عنه.
(وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) هو علم المحسوسات ، وذلك شيء نزر حقير بالنسبة إلى علوم الله تعالى المناسبة لاستعدادهم وإدراكهم كتفجير العيون من الأرض ، وجنة النخيل والأعناب وإسقاط السماء عليهم كسفا والرقي فيها والإتيان بالملائكة ، وسائر الممتنعات المتخيلة ، وأجيبوا بقوله : (قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ) أي : ما أمكن نزول الملائكة مع كونهم نفوسا مجردة على الهيئة الملكية في الأرض ، بل لو نزلت لم ينزلوا إلا متجسدين كما قال : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (٩)) [الأنعام : ٩] ، وإلا لم يمكنكم إدراكهم ، فبقيتم على إنكاركم ، وإذا كانوا مجسدين ما صدقتم كونهم ملائكة ، فشأنكم الإنكار على الحالين ، بل على أي حال كان كإنكار الخفاش ضوء الشمس.
__________________
(١) تعريف له : بأنه من عالم الأمر لا من عالم الخلق ؛ كنه لّما تعلّق بعالم الخلق ؛ واشتبه على الخلق أنه ما هو ، ولم يعرفوا أنه هو الأمر الإبداعي الذي لم يكن له تعلّق بالأشياء المنفوخ هو فيها ؛ لكمال تجرّده في نفسه ؛ لأنه العقل المحض إلا تعلّق التدبير والتصرف ، وهو المراد بالظهور في قول : من قال : سبحان من أظهر الأشياء ؛ وهو عينها ؛ ولذا لم يقل : سبحان من خلق الأشياء ؛ وهو عينها ، ومن ثمّ زلت فيه بعض الأقدام ، وقال ما قال من أسوء الكلام ، ثم إن هذا التعلّق لا ينقطع أبدا من الأشياء ؛ لأن التجليّات لا تنقلب العدم البتة ، وإن دارت في الأطوار المختلفة مثلا : إن الروح متعلّق بالإنسان مادام حيّا ، فإذا مات ؛ تعلّق بعناصره إلى أن ينشئه الله ثانيا ، وإنما تمنّى الكافر أن يكون ترابا ؛ لأن التراب أبعده عن الحضرة من حيث إنه من عالم القوة والإنسان أقرب منها من حيث إنه من عالم الفعل ، ولا شك أن العذاب على من كذب وتولى لا على من أعطاه الله خلقه فهدي فافهم جدا ، ثم إنه صلىاللهعليهوسلم إنما توقف في الجواب ، وانتظر الوحي الإلهي مع أن علمه حاضر عنده ، وهو مرئي له ملكوت السماوات والأرض ، كما أن الجواب عن أمر الله أقوى من الجواب عن أمر نفسه ؛ لأن الوجه الخاص تابع للوجه العام ؛ فاقتضى الأدب الإلهي ألا يتكلم إلا بالحق من كل الوجوه ؛ فظهر من هذا التقرير سرّ قوله تعالى : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) وهو أنهم لو كانوا أوتوا من العلم كثيرا ؛ لما احتاجوا إلى السؤال عن أمر الروح ؛ فعلم أنهم جاهلون به لاحتجابهم بالغواشي البشرية أنه صلىاللهعليهوسلم عالم به لأنه أقوى روحا من عيسى عليهالسلام ؛ لأنه تعالى قال : (وَرُوحٌ مِنْهُ) أي أن عيسى روح مبتدأ من روح محمد صلىاللهعليهوسلم بل من الروح الأمين ؛ لأنه هو النافخ ، ومن ثم كان الحضرة النبوية جدّا للحضرة العيسوية ، فاعرف جدا.