والأمر أمر الله ، والقدر قدر الله ، فمن حيث القدر يثبت ، ومن حيث الفعل يمحو ما قدر يمحو الله ما يشاء مما قدر في الأزل ، بقدر أسبق من ذلك القدر ، وهو علم العلم ، وغيب الغيب ، وسر السر ، وأمر الأمر ويثبت مما يشاء مما قدر الذي لم يسبق عليه قدر القدر ، فهو في جميع ذلك واحد من كل الوجوه ، السبب صدر من المسبّب والمسبّب والسبب في عين الجميع واحد.
كان نظر الخضر إلى القدر الظاهر ، ونظر موسى إلى قدر القدر ، كان موسى احتج على الخضر ؛ بأن القدر سبق على بقاء إيمان أبويه ، وإيمان المقتول معا ، وإن لم يكن القتل في البين ، واحتج الخضر على موسى بأن قتل الغلام كان أيضا مقدّرا في أزل الازال ، وهو بذاته فعل الله المباشر في أمر الله ، فلما علا علمه بالقدر على علم موسى.
قال : (هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) وأظن في ذلك أن الغلام كان حسن الوجه ، وكان فيه نور من كسوة حسن الحق ، فخاف الخضر على أهل الحق ومعرفته أن ينظروا إليه ويستأنسوا بما يجدون من نور الله فيه ، فيقفون بالوسائط عن مشاهدة الله ، فقتله بغير الله ورفع الوسائط من بينه وبين أحبائه وأنبيائه وأوليائه.
قال بعضهم : تفرس الخضر في الغلام ما تئول إليه عاقبته من الكفر ، كذلك من تفرس بنور الله لا يحظى فراسته ، قوله تعالى : (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) وقوله : (فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما) وقوله : (فَأَرادَ رَبُّكَ) هذه الإرادات على صورتها مختلفة ، وفي الحقيقة واحدة ؛ لأن الإرادة بالحقيقة إرادة الله إذ الإرادات صدرت بصنوفهم عن إرادة الله فقوله : (فَأَرَدْتُ) خبر عن عين الجمع والاتحاد ، وقوله : (فَأَرَدْنا) خبر عن الاتصاف والانبساط وقوله : (فَأَرادَ رَبُّكَ) خبر عن إفراد القدم عن الحدوث ، وتلاشي الحدث وفناء الموحد في الموحد ، وهذه الإرادة بوصفها باطن المشيئة ، وباطن المشيئة غيب الصفة ، وغيب الصفة سر الذات ، والذات غيب جميع الغيوب ، ولما تحرك من وصف الاتحاد قطعته الغيرة من محض الاتحاد إلى عين الجمع وقطعته الجمع إلى الاتصاف ، ومن الاتصاف إلى الانبساط ، ثم أغرقته بحر الألوهية ، وأفنته في لججها عن كل رؤية ، وعلم وإرادة فعل ، وإشارة كان الحق بفصله نطق في الأول والثاني والثالث ، ولم يبق في البين إلا الله.
قال ابن عطاء لما قال الخضر عليهالسلام : (فَأَرَدْتُ) أوحي إليه في السر من أنت ؛ حتى تكون لك إرادة فقال في الثانية : (فَأَرَدْنا) فأوحي إليه في السر من أنت وموسى ؛ حتى تكون لكمال إرادة فرجع وقال : (فَأَرادَ رَبُّكَ).