كشف لقائه له كفاحا ، وليس من يعلم منه بلا واسطة كمن تعلّم بواسطة ، فإذا أراد تعليم أرواح الأنبياء والأولياء حين أوجدها ألبسها نورا من نوره ، وبصرا من أبصاره ، وسمعا من أسماعه ، وعقلا من علمه ، ثم علّمها صفاته بما خاطبها من كلامه الأزلي ؛ حيث لا وسائل ولا وسائط ، وليس من علّمه الحق برسم الأرواح كمن علّمه المعلمون برسم الأشباح ، لا هناك علمهم بلا آلة الحدثية ولا علة المخلوقية ، بل كان خطابا بنعت ظهور الصفة ، وسماعا بلا واسطة ، فهموا من كلامه ما استتر من حقائقه على فهوم أهل الرسوم من العلماء.
قال بعضهم : علّم آدم الأسماء ، ثم عرضهم على الملائكة ، وعلّم محمّدا صلىاللهعليهوسلم القرآن ، وعرضه على نفسه ، فقال : فيم يختصم الملأ الأعلى؟
وقال بعضهم : علّم الروح القرآن قبل الجسد ، فالأجساد أخذت القرآن ، وتعلّمته تبعا للأرواح.
قال الواسطي : أورثهم تعليم الحق إيّاهم الاصطفائية ، وهو أنه لمّا كان الحق يعلّمهم أخبر عنهم ، فقال : (أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) ، أي : وأورثنا القرآن من خصصناهم بتعليمنا ، ومن ذلك قوله : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) ، بأن تولى الحقّ تعليمهم.
وقال أيضا : ذكر بلفظ الماضي عناية ورعاية.
قال ابن عطاء : لمّا قال الله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها :) أراد أن يخص أمة محمد صلىاللهعليهوسلم بخاصية مثله ، فقال : (الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ) أي : الذي علّم آدم الأسماء ، وفضّله بها على الملائكة هو الذي علمكم القرآن ، وفضلكم به على سائر الأمم ، فقيل له : متى علّمهم حقيقة في الأزل ، وأظهر لهم تعلّمه وقت الإيجاد ، فالتعليم حيث كان في جملة العلم فلما كشف العلم عن الإيجاد أظهر عليهم آثار التعليم.
قال الحسين : (الرَّحْمنُ) من علّم الأرواح القرآن شفاها ومخاطبة ، فأخذتها الأنفس ، وتعلمتها بتلقين الوسائط.
قوله تعالى : (خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيانَ) (٤) أي : خلق آدم بظهور الصفة والذات له ، وإلباسه إيّاه علم الربوبية ، ومعرفة أسرار الإفعالية ، وعلّمه أسماءه الحسنى التي هي مفاتيح جميع صفاته ، وذلك قوله : (خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ، وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ،) وقوله : (خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيانَ :) علّمه بيان خطابه ، وكاشف له لطائف أسراره ، وعرّفه بطون علم أفعاله ، وأعطاه العقل القدسي الذي يرى الأشياء كما هي بنوره وبرهانه ، و «علم البيان» أي : فصل الخطاب ، وانتظام الكلام ، وفصاحة اللسان في تأويل القرآن وسنة