وقوله ـ عزوجل ـ : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ).
فقوله : (ذلِكَ) يقول : ذلك العذاب والإهلاك الذي نزل بهم لما كانت أتتهم رسلهم بالبينات ، فكفروا وكذبوا الآيات والأدلة التي أتتهم رسلهم أنهم رسل الله إليهم ، فأصابهم ما أصابهم ، كذلك فأنتم يا أهل مكة إذا كذبتم الرسول بعد ما أتتكم البينات والأدلة على رسالته ، ينزل بكم ما نزل بأولئك بالتكذيب والعناد ورد الآيات والأدلة ، والله أعلم.
قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢٣) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٢٤) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٢٥) وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (٢٦) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ)(٢٧)
وقوله : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا).
يحتمل (بِآياتِنا) أي : بحججنا ، وذكرنا أنه يحتمل أن الآيات والسلطان واحد ، ويحتمل أنهما غيران.
وقوله : (إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ) ، ليعلم أنه كان مبعوثا إلى الكل لم يبعث إلى بعض دون بعض.
وقوله : (فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ).
دل قولهم : ساحر كذاب على أن موسى ـ عليهالسلام ـ قد آتاهم من الآيات والحجج ما عجزوا عن إتيان مثلها والمقابلة لها ؛ فخافوا أن يتبعه الناس لذلك ، فموهوا بقولهم : (ساحِرٌ كَذَّابٌ) على سائر الناس ؛ لئلا يتبعوه فيما يدعو ؛ لما عرف الناس أن السحر ليس يعرفه كل أحد وأن أكثر الناس يعجزون عن السحر ، وكانوا يعرفون أن السحر يكون كذبا ، فموهوا بذلك القول أمر موسى ـ عليهالسلام ـ على أتباعهم ، ونسبوه إلى الكذب من غير أن ظهر من موسى كذب قط ، وقد كان لم يزل من فرعون تمويه وتلبيس على قومه أمر موسى ؛ مخافة أن يتبعوه ؛ لما أتاهم من الحجج والأدلة التي ظهرت عندهم أنها حجج وأدلة ، من ذلك قوله ـ عزوجل ـ : (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ) [الشعراء : ٣٥] وقوله : (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) [طه : ٧١] قال هذا بعد ما اتبعه السحرة وآمنوا به ؛ ليموه بذلك أمرهم على من لم يتبع موسى من الأتباع ، وقوله : (إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها) [الأعراف : ١٢٣] وغير ذلك من التمويهات التي كانت منه ؛ فعلى ذلك هذا القول منهم حيث قالوا : (ساحِرٌ كَذَّابٌ) لأنهم اعتادوا.