وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ).
أي : جاءكم من البينات ما يبين أنها آيات من عند الله لا اختراعا من موسى ـ عليهالسلام ـ ويبين أنه صادق فيما يقول ويدعي.
وقوله : (وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ).
أي : وإن كان كاذبا فيما يدعوكم إليه فعليه كذبه ، وإن كان صادقا فيما يقول ويدعي يصيبكم بعض الذي يعدكم ، فهو يعلم أنه صادق فيما يقول حقيقة ، ولكن لما كان عند القوم احتمل الأمر ، ذكر على ما في زعمهم ؛ دفعا للقتل عن موسى ، عليهالسلام.
ثم الإشكال أنه قال : (يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) ذكر أنه يصيبهم بعض الذي يعد الرسل ، [والرسل] إذا وعدوا شيئا يصيبهم بكماله ، لا يجوز أن يكون خلاف ما أخبروا أو دون ما ذكروا ، لكن يخرج على وجوه :
أحدها : أنه كان وعده إياهم أن يصيبهم العذاب في الدنيا والآخرة ، فيقول : (يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) ، وهو ما وعد لهم أن يصيبهم في الدنيا ، وأما ما وعد لهم في الآخرة ، فهو يصيبهم في وقت آخر وهو في الآخرة ، فما أصابهم في الدنيا فهو بعض ما جرى الوعيد منه لهم ؛ لأن الوعيد كان منه في الدنيا والآخرة ، والله أعلم.
والثاني : يحتمل أنه كان ـ عليهالسلام ـ وعدهم بأنواع من العذاب ، وقد أصابهم بعض ذلك من الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ونحو ذلك ، وفي بعض ما وعدهم هو هلاكهم ؛ فكأنه يقول لهم : إنكم قد أصابكم كثير من ذلك ، فيصيبكم بعض ما يعدكم الذي فيه هلاككم مبالغة في الزجر ؛ لما قد أصابهم ما وعد لهم من أنواع العذاب ، ولم يكن وعده كذبا ، فبعض ما يعدكم ـ وهو الهلاك ـ كيف يكون كذبا؟! والله أعلم والموفق.
والثالث : [أراد] بالبعض : الكل ؛ لأنه أراد بهذا البعض : الهلاك ، وهو البعض الأقصى ، فيدخل العالي فيه لأنه إذا أوعده بأنواع من العذاب منها الهلاك يكون الهلاك هو البعض الأقصى ؛ إذ لا عذاب في الدنيا بعد الهلاك ، فيكون سائر أنواع العذاب في الدنيا يكون قبل الهلاك ، فإذا أريد به هذا البعض يدخل فيه ما قبله ، ويكون ذكره ذكرا للكل ؛ إذ لا وجود له بدون سائرها ؛ لذلك قال : (يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) ، هذا يخرج على وجهين :
أحدهما : أنه لا يهدي من هو في علمه أنه يؤثر الإسراف والكذب.