وتتركون اتباعه وتتبعون رجلا لم يأتكم بالبينات ، هذا منه احتجاج عليهم : أن كيف تقتلون رجلا وتتركون اتباعه بعد ما جاءكم بالبينات من ربكم ، وتتبعون من لا بينة معه ولا برهان؟! يسفههم في صنيعهم الذي أرادوا أن يصنعوا به ، والله أعلم ، ووعظهم أيضا وعظا لطيفا فيه رفق حيث قال : (يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا) يقول ـ والله أعلم ـ : إنكم إن قتلتم ذلك الرجل بعد ما جاءكم بالبينات وتركتم اتباعه ، فجاءكم عذاب الله وبأسه ، فمن ينصركم عن ذلك العذاب ويمنعكم عنه إذا قتلتم نبيه بغير حق؟! ثم وعظهم وعظا بما نزل بمكذبي من كان قبلهم من الرسل حيث قال : (مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ. مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ) يقول : إني أخاف عليكم أن ينزل بكم ويقع عليكم من عذاب الله بتكذيبكم الرسول موسى ـ عليهالسلام ـ وترككم اتباعه بعد ما جاءكم بالبينات أنه رسول وأنه صادق فيما يقول ويدعي ، كما نزل ووقع من العذاب بالأحزاب الذين كانوا من قبلكم ممن ذكر بتكذيبهم الرسل واستقبالهم إياهم بما استقبلوا بعد ظهور صدقهم عندهم بما تستقبلون أنتم رسولكم موسى ، بعد ما ظهر صدقه عندكم بالبينات التي جاءكم ، والله أعلم.
ثم ما ذكر من الأحزاب فيحتمل أن يكون تفسيره ما ذكر على أثره من قوم نوح وعاد وثمود ، ويحتمل سواهم من الأمم ، والله أعلم.
ثم قوله : (مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ) قال بعضهم : أي : مثل صنيع قوم نوح ومن ذكر وفعلهم.
وقال بعضهم : أي : مثل عذاب قوم نوح ومن ذكر ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ).
في هذه الآية للمعتزلة نوع تعلق ؛ يقولون : إن الله تعالى قد أراد من العباد ما يفعلون من أفعال الظلم والجور ، وقد أخبر الله تعالى أنه لا يريد ظلما للعباد.
ولكن الآية في التحقيق عليهم ؛ لأنه قال في آية أخرى : (يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ) [آل عمران : ١٧٦] أخبر أنه أراد ألا يجعل لهم حظّا في الآخرة ، ولو لم يرد منهم ما يستوجبون به العذاب كان في تعذيبه إياهم ظالما على زعمهم ؛ دل أنه أراد منهم ما يستوجبون به العذاب وهو فعل الظلم ، والله أعلم.
ثم تأويل الآية يخرج على وجهين :
أحدهما : أن الإرادة هي صفة كل فاعل يفعل عن اختيار ، فكأنه قال : والله لا يظلم عباده ؛ كقوله تعالى : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت : ٤٦].