يجوز أن يحتج عليهم بما هو حجة وهم لا يرونها حجة ، والله أعلم.
والثاني : إنما ذكر ذلك على المبالغة والنهاية في الحجة ، وإن كانت الحجة قد تلزمهم والحكم قد ثبت بدون ذلك وهو العقل ؛ لأن إرسال الرسل وإقامة المعجزات أقرب إلى الوصول إلى الحق ، وقد أقام كلا الحجتين فذكر وأظهر الحجتين ؛ ليكون أقرب إلى إظهار عنادهم ، وهذا كما في تعذيب الكفرة في الدنيا أنهم لم يعذبوا بنفس الكفر حتى كان منهم مع الكفر الاستهزاء بالرسل والعناد لهم وغير ذلك ، وإنما كانوا يستوجبون العذاب بنفس الكفر ، لكن ترك تعذيبهم حتى يبلغوا النهاية والإبلاغ في التكذيب والعناد ؛ وهو كقوله تعالى : (الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) [فصلت : ٧] ذكر هذا على النهاية والإبلاغ في الجناية منهم ، وإن كانوا يستوجبون العذاب بجحودهم الزكاة دون جحود البعث ، أو جحود البعث دون جحود الزكاة ؛ فعلى ذلك الآيات التي ذكرها هي على الإبلاغ والنهاية ، وإن كان الحجة تلزمهم والحكم يثبت بدون الرسل ، والله الموفق.
وبعد ، فإن قوله : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ) فلا تكون ظالما فيما عذبتنا ، والظلم من الله تعالى محال ؛ فيستحيل تقدير الآية على هذا الوجه ؛ دل أن التعذيب قبل الرسل عدل وحكمة وليس بظلم ، والله الموفق.
وبعد : فإن في قوله : (أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ) دلالة أن الحجة إنما تلزم بالبينات لا بنفس الرسل ، والبينات قد وجدت ، وسبب المعرفة وطريقها ـ وهو العقل ـ قائم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ).
ليس على الأمر بالدعاء ، ولكن معناه : أنكم وإن دعوتم لا ينفعكم دعوتكم ؛ كقوله : (لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) [الفرقان : ١٤] أي : هلاكا ، والله أعلم.
قوله تعالى : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (٥١) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (٥٣) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٥٤) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ)(٥٥)
وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا).
يحتمل ما ذكر من النصر للرسل والمؤمنين وجوها :
أحدها : أن ينصرهم في الدنيا بالحجج والآيات التي أعطاهم في الدين حتى يدفع بها تسويلات الشيطان وتمويهات السحرة وتغلبها وتعلو على كل هذا في الدنيا ، وفي الآخرة أيضا ينصرهم بما يشهد لهم عليهم الملائكة والجوارح بالتكذيب للرسل والمؤمنين ،