وغير ذلك من الآيات التي فيها بيان : أنه ينطق الله تعالى الأشياء التي عبدوها وعصوا بها ربهم ؛ فعلى ذلك ينطق الله الجوارح التي بها عصوا ربهم ؛ فتشهد عليهم بجميع ما كان منهم.
وقوله : (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ).
اختلف فيه :
قال بعضهم : أي : ما كنتم تعلمون وتستيقنون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ، ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون ، الظن هاهنا على هذا التأويل : حقيقة الظن ، أو الجهل ، أي : ولكن جهلتم أن الله يعلم كثيرا مما تعملون ، فلو كان تأويل الآية ما ذكر هؤلاء ففيه دلالة أن العذاب قد يلزم ويجب وإن جهل ذلك ولم يتحقق عنده العلم به (١) ، إذا كان بحيث إمكان الوصول إلى علم ذلك ومعرفته بالنظر والتأمل والتفكر بغير ذلك من الأسباب ، لكنه ترك التأمل فيه ، فلم يعلم ذلك ؛ فلم يعذر بجهله ، وهكذا الحكم أنّ من مكن له العلم وأسباب المعرفة فلم يتكلف معرفته ، لم يعذر في جهله ؛ ولهذا قال أبو حنيفة في الأطفال أن : لا علم لي بهم ؛ لما لا يعلم أنهم قد بلغوا المبلغ الذي يدركون الأشياء بالتأمل والتفكر أم لا (٢)؟!
وقال بعضهم : (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ) ، أي : كنتم لا تقتدرون أن تستتروا من سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ، فأحد لا يستطيع أن يستتر من نفسه إذا عمل شيئا ، فذلك ظنكم أن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون في السر.
وقوله : (وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ).
أي : وذلكم جهلكم على ما ظننتم بأن الله ـ تعالى ـ لا يعلم ذلك ، وهو لا يخفى عليه خافية ، فظنكم ذلك أرداكم ، أي : أغواكم وأضلكم عن الهدى.
وقال قتادة : يا ابن آدم ، إن عليك لشهودا غير متهمة : من بدنك ، فراقبهم ، واتق الله في سر أمرك وعلانيتك ؛ فإنه لا يخفى عليه خافية : الظلمة عنده ضوء ، والسر عنده علانية ، ومن استطاع أن يموت وهو بالله حسن الظن ولا قوة إلا بالله.
ثم قال : الظن ظنان : ظن منج ، وظن مرد (٣) ، فأما المنجي فقوله : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) الآية [البقرة : ٤٦] ، وما قال : (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) [الحاقة : ٢٠] ، وأمّا الظن المردي فقوله : (وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ) ، وقوله : (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا
__________________
(١) ثبت في حاشية أ : في عدم الغدر بالجهل. م.
(٢) ثبت في حاشية أ : توقف الإمام الأعظم في الأطفال. م.
(٣) ثبت في حاشية أ : ظن منج ، وظن مهلك. م.