عنه القدرة عن أكثر الأشياء ، فلا يصير هو قادرا على كل شيء ، وإنما هو قادر على البعض ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوّا كبيرا.
وقوله ـ عزوجل ـ : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً).
قال أبو بكر الأصم : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ) أي : خلقكم أمواتا : نطفة وعلقة ومضغة ، ثم أحياكم (لِيَبْلُوَكُمْ).
وقال غيره : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ) ليجزيكم بعده ، والحياة ؛ ليبتليكم بها ، واستدل بقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [الكهف : ٧] ، فصرف المحنة إلى الحالة التي أنشأهم على وجه الأرض ، وهي حالة الحياة ، [ثم أخبر بعد ذلك أنه يجعلهم](١) صعيدا جرذا بعد الابتلاء بقوله : (وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً) [الكهف : ٨].
وعندنا : أنه خلقهما جميعا للابتلاء ؛ لأن الله ـ تعالى ـ خلق الموت على غاية ما تكرهه الأنفس ، وتنفر عنه ، وخلق الحياة على غاية ما تتلذذ به الأنفس وترغب فيها ، والمحنة في الترغيب والترهيب ، فثبت أن في خلق الموت محنة ؛ فيكون قوله ـ تعالى ـ : (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) كأنه يقول : خلق الموت مرهبا ، وخلق الحياة مرغبة ؛ (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) ، أي : ليبلوكم أيكم أرهب من الشر ، وأرغب في الخير؟
ثم الموت مما لا مهرب منه لأحد ، ولا مخلص لمخلوق ، وكذلك الحياة ، وإن كانت من أرغب الأشياء إلى الأنفس ، فليست هي بحيث يتهيأ للمرء أن يزيد منها بالطلب ، ولا مما يوجد بالكد والسعي ؛ فصارت هي مرغبة في الحياة الدائمة وهي نعيم الآخرة ، [وصار الموت](٢) مرهبا عن الموت الدائم ، والموت الدائم هو العذاب الدائم ، الذي لا ينقطع كما قال ـ تعالى ـ : (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ) [إبراهيم : ١٧] ، أي : لا تنقضي عنه الآلام والأوجاع بل يبقى فيها أبدا ، وإذا ثبت أن الموت صار مرهبا عن العذاب الدائم ، والحياة صارت مرغبة في مثلها ، فنقوم بطلبه ، ووجب القول بالبعث أيضا ؛ إذ الراغب إنما يصل [إلى] ما يرغب فيه بالبعث ، والآخر إنما يصير إلى العذاب الدائم بالبعث.
وفيه إيجاب القول بالرسالة ؛ لأنه إذا ثبت الرغبة في الموعود من الثواب والرهبة (٣) عن العذاب ، وهما جميعا غائبان ، فاحتيج إلى من يظهرهما ويحضرهما ويخبر عنهما ، فلم يكن بد من رسول يخبرهم ويحضر علمه لهم.
__________________
(١) في ب : ثم أخبر عما بعده أنهم يجعلون.
(٢) في أ : وصارت.
(٣) في أ : والرغبة.