فصارت الكفرة في إنكارهم أمر البعث أعذر من المعتزلة في إنكارهم خلق الأفعال ، ولم يوجب القول بالقدرة على ابتداء الخلق قولا بالقدرة على إنشاء البعث والإعادة بعد الإفناء ؛ فثبت أن ليس في الآيات التي جعلها الله تعالى دلالة إثبات البعث على قولهم.
والوجه الثاني : في تثبيت الوحدانية ، وجعل دليل وحدانيته توحده بخلق الأشياء وتفرده بإنشائها ؛ ألا ترى إلى قوله ـ تعالى ـ : (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ) [الرعد : ١٦] ، وقال : (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ) [المؤمنون : ٩١] ، وعلى قول المعتزلة : هو غير متوحد بخلق الأشياء ، بل أكثر خلق الأشياء كان بالعباد لا بالله تعالى ، وإذا لم يوجد منه التوحد والتفرد بخلق الأشياء ارتفع وجه الاستدلال من هذا الوجه على معرفة الصانع ووحدانيته (١) ، وإذا كان كذلك ، لم تثبت وحدانية الله تعالى ـ على قولهم ـ من الوجه الذي جعله دليل الإثبات.
والوجه الثالث : وهو أن الآيات ذكرت في إثبات حكمة الله تعالى ، وجعل دليل حكمته خلق السموات والأرضين وغيرهما من الأشياء ، ونحن إنما عرفنا خلق السموات والأرضين بما شاهدناهما مجتمعين ، والاجتماع حادث فيهما ، وما لا ينفك عن الحادث فهو حادث ، والحادث لا بد له من محدث ، ولو لا ذلك لم نعرفه ولا يثبت لنا خلقهما ، وعلى قول المعتزلة : الجمع والتفريق لا يدل على الخلق ؛ لأن كل من له القوة يقدر على جمع الأشياء وتفريقها ، والاجتماع والتفريق (٢) فعل الجامع والمفرق ؛ لقولهم بالمتوالدات ، فمن استحكمت قوته أمكنه جميع الأشياء ؛ لقوته (٣) ومن ضعفت قوته جمع على قدر ما ينتهي إليه قوته ، وإذا كان كذلك لم يتبين عند الخلائق على قولهم : إن الله ـ تعالى ـ هو الذي خلق السموات والأرضين ؛ إذ خلقهما لا يعرف إلا من الوجه الذي ذكرنا ؛ وذلك مما [لا] يجوز تحققه إلا بالله تعالى.
وجائز أن يكون الله تعالى أقدر ملكا من ملائكته وقواه على خلق السموات والأرض ، وإذا كان كذلك لم يظهر بما ذكرنا : أن الله تعالى هو الخالق لهما ؛ فبطل أن يكون في خلق السموات والأرضين (٤) وفي خلق سائر الأشياء ـ دلالة حكمته وقدرته ووحدانيته ، وقد جعل الله تعالى خلقهما دلالة لهذه الأوجه التي ذكرناها.
__________________
(١) في أ : ووحدانية الرب.
(٢) في ب : والتفرق.
(٣) في ب : القوية.
(٤) زاد في ب : وفي خلق السماء والأرض.