سورة المرسلات وفي سورة (وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ) وسنذكر طرفا من ذلك هاهنا بعون الله تعالى وتوفيقه ، فنقول بأن الله تعالى أنشأنا في أظلم مكان وأضيق موضع ، بحيث لا ينتهي إليه تدبير البشر وعلومهم وحكمتهم وقواهم ؛ لأن علم الخلق لا يجد نفاذا في الظلمات ، وكذلك حكمته ، ثم إن الله تعالى أنشأه في تلك الظلمات كيف شاء ، وأجرى سلطانه وتدبيره على ذلك الشيء ؛ ليعلم به أن علمه بالخفيات من الأمور كعلمه بما ظهر منها ، ويعرف الخلائق أنه لا يخفى عليه شيء ، فيدعوهم ذلك إلى المراقبة في كل ما يسرون وما يعلنون ، ويوجب ما ذكرنا نفي تقدير قوته وعلمه وسلطانه بقوى البشر وعلومهم وسلطانهم ؛ فيكون فيه إيضاح (١) عن الشبه التي اعترت منكري البعث [في أمر البعث](٢) ، ويحملهم على الإيمان [به](٣) إذا أمعنوا النظر فيه ، وليعلموا أن من بلغت حكمته ما ذكرنا لا يجوز أن يخلقهم سدى لا يخاطبهم ولا ينهاهم بل يتركهم هملا.
وأما وجه تعاليه عن الأشباه والأشكال : هو أنه أنشأ الخلق في أظلم مكان وأضيقه كان فيه إبانة أنه لا يوصف بالكون (٤) في ذلك المكان الذي ظهر فيه آثار فعله ؛ لأنه في وقت ما خلق عمرا في بطن أمه ، فقد خلق زيدا في ذلك الوقت (٥) في بطن أمه ، وخلق خلائق في بطون الأنعام والسباع وبطون بنات آدم ، وأنشأ النبات في الأرضين في ذلك الوقت ، ولو كان يوصف بالكون في مكان الفعل ، لكان إذا أخذ في خلق هذا لا يخلق في ذلك الوقت في أقطار الأرض أمثاله من الخلائق ؛ فدل أن الفعل ليس يتحصل منه بشهوده المكان الذي ظهر فيه فعله ، وإنما يكون بما [ظهر لنا بمقتضى](٦) قوله : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [النحل : ٤٠].
وأما سائر الفعلة فهم لا يتمكنون من الفعل إلا بشهودهم مكان الفعل ؛ فهذا الذي ذكرناه ينفى عنه شبه الخلق ، ويوجب تعاليه عن الأشكال ، وفيه تذكير نعمه ومننه على خلقه ؛ ألا ترى أنه قال على أثر هذا : (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ)؟!
ولو لم يكن منعما مفضلا ، لم يكن يستأدي منهم الشكر.
ووجه النعمة : هو أنه قدره في تلك الظلمات وصانه عن الآفات ، وعن كل أنواع
__________________
(١) في أ : انفتاح.
(٢) سقط في ب.
(٣) سقط في ب.
(٤) في أ : ما يكون.
(٥) في أ : البطن.
(٦) في أ : ذكر من.