الأذى ، وغذاه في ذلك الموضع بما شاء من الأغذية ، وستره عن (١) أبصار الناظرين ، وغيبه عن أعينهم ؛ لأنه في تلك الحال بالمحل الذي يستعاف ويستقذر منه ، ولا يمكن أن يدفع عنه المعنى الذي وقعت به الاستعافة والاستقذار بالتطهير ، وأنشأ له السمع والبصر والفؤاد ؛ ليصل بها إلى أنواع العلوم والمصالح ؛ فلزمهم أن يقوموا بشكر ذلك.
وفيما ذكرنا نقض قول المعتزلة ؛ لأنهم يزعمون أن الله تعالى لو خلقهم (٢) على غير الوجه الذي ظهر ، لكان جائرا ؛ لأن من مذهبهم : أنه لا يفعل بهم إلا ما هو أصلح لهم ، وإذا كان خلقهم هو الأصلح ، ومن شرطه فعل الأصلح ، فإذن هو صار قاضي حق ، وليس لقاضي الحق على المقضي موضع منة ، ولا منه بمكانة ولا نعمة يلزمه شكرها له.
ثم قوله عزوجل : (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) :
أي : جعل لكم السمع ؛ لتسمعوا ما غاب عنكم ونأى ، فتعرفوه بالسمع ، وأنشأ لكم الأبصار ؛ لتبصروا بها ما حضر من الأشياء ، وتعرفوا بها ما ينفعكم وما يضركم ، وما خبث منها وما طاب ، وأنشأ لكم أفئدة تدركون بها حقائق الأشياء ، ومبادى الأمور ومآلها ، وما حل منها وما حرم.
ثم خص هذه الأشياء الثلاثة بالذكر ؛ لما بها يتوصل إلى العلوم ومعرفة الأشياء ؛ قال الله ـ تعالى ـ : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [النحل : ٧٨] ، ومعناه : أنه أنشأ لكم هذه الأشياء ؛ لتهتدوا بها ، وتصلوا بها إلى أنواع العلوم ؛ فثبت أن هذه الأشياء هي التي يتوصل بها إلى العلم والحكمة ، وإلى ما به المصلحة والمنفعة ؛ ولذلك قال : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) [الإسراء : ٣٦] ، فلو لم يقع بها الوصول إلى علم الأشياء ، لكان لا يخص بالسؤال عنها.
وقوله ـ عزوجل ـ (هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) جمع في هذه الآية بين خبرين :
أحدهما : مما قد نوزع فيه ، وهو قوله : (وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) فإن بعض الكفرة ينكرون الحشر والبعث.
والثاني : مما لم يقع فيه التنازع ، وهو قوله : (هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ).
ثم إن الله ـ تعالى ـ جعل ابتداء الخلق دلالة القدرة على الإعادة بقوله : (قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) [يس : ٧٨ ، ٧٩] ، وقال : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧].
__________________
(١) في أ ، ب : على.
(٢) في أ : جعلهم.