منه اشتقّ تلك الأسماء ، فذكر أسمائه يحدث له ما ذكرنا من الفوائد والعلوم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً)
التبتل (١) هو الانقطاع إلى الله تعالى ، وأن يقطع نفسه من شهواتها ، ويصرفها عن لذاتها ؛ فكأنه قال : وتبتل إليه ، وبتل نفسك تبتيلا من الشهوات واللذات ؛ ولذلك سميت مريم ـ رضي الله عنها ـ : البتول ؛ لأنها قطعت نفسها عن منافع الدنيا ، وأقبلت إلى الآخرة ، وانقطعت إليه.
وقوله ـ عزوجل ـ : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ)
قال أبو بكر الأصم : تأويله : [ملك المشرق والمغرب](٢) ، وحقه أن يقال : مالك المشرق والمغرب ؛ لأنه هو المالك على التحقيق.
وقال بعضهم : الرب هو المصلح ، ثم خص المشرق والمغرب بالذكر وإن كان هو مالكهما ومالك الخلائق أجمع ؛ لأن ذكر المشرق يقتضي ذكر السموات والأرضين ، وفي ذكر السموات والأرضين ذكر أعلى العليين وأسفل السافلين ؛ لأنه إذا نظر إلى المشرق ورأى ما يطلع في المشرق من عين الشمس ، ثم تجري في أقطار السماء ، وتقطع كل يوم مسيرة ألف عام ، ثم تغرب في عين حمئة ؛ فتصير إلى أسفل السافلين ، وتجري كذلك حتى تصل إلى مطلعها ، ثم تطلع هنالك ؛ فدل ذلك على أن مدبر السموات والأرضين ومنشئهما واحد ، وأن سلطانه في الأرض كسلطانه في السماء ، ويعلم أن من بلغت قدرته هذا المبلغ في أن يسير عين الشمس في يوم واحد مسيرة ألف عام ما يشتد على الخلق قطع هذه المسافة في مدد كثيرة ـ لا يجوز أن يعجزه شيء ، ودل على أن ملكه دائم لا ينقطع ؛ لأن عين الشمس تجري في كل يوم ، على ما سخرت ، لا تتبدل ، ولا تتغير باختلاف الأزمنة والأوقات ، وجعل منافع أهل الأرض متصلة بمنافع السماء ، ولو لم يكن مدبرهما واحدا لارتفع الاتصال (٣) ، وانقطعت منافع السماء عن أهل الأرض ؛ فكان في ذكر المشرق والمغرب دلالة وحدانيته ، وإظهار قوته وسلطانه ، والوقوف على عجائب حكمته ولطائف تدبيره.
ثم تخصيص ذكر المشرق والمغرب دون السماء والأرض ؛ هو ـ والله أعلم ـ لأن هذا أوصل إلى معرفة التوحيد ، وأسرع إلى الإدراك من ذكر السموات والأرض ، وإن كان
__________________
(١) في ب : فالتبتيل.
(٢) في ب : الملك للمشرق والمغرب.
(٣) في ب : الإيصال.