الجزع بعض التسلي والتشفي. ولا تدع عليهم بالهلاك والتبار بل اصبر لذلك.
ولقائل أن يقول : كيف كان يشتد عليه (١) تكذيبهم إياه حتى كاد يتحزن لذلك ، والذين نسبوه إلى الكذب كانوا من أعدائه ، وليس يستثقل التكذيب من العدو ، ولا يستكثر منه ؛ لأنه بما يعاديه يعتقد أن يسيء إليه بجميع ما يمكنه وسعه ، وإنما يستثقل التكذيب من أهل الصفوة والمودة ؛ فكيف استثقله؟ وكيف بلغ به التكذيب مبلغا يحزن به ؛ حتى يدعى إلى الصبر بقوله : (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ ..). الآية [الأنعام : ٣٣] ، وبقوله (٢) : (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ)؟
والجواب عن (٣) هذا أن الكذب والجهل مما يستثقلهما العقل والطبع جميعا ، وكذلك التكذيب والتجهيل ، أمر ثقيل على الطبع والعقل جميعا ، حتى إن الكذاب (٤) إذا نسب إلى الكذب ، اشتد عليه ذلك ، ولم يتحامل ، وكذلك الجهول إذا عرف بالجهل ، ثقل ذلك عليه ؛ فإذا كان التكذيب مستقبحا (٥) في عقول الخلق وطبائعهم ، وإن كانت (٦) طبائعهم مشوبة بالآفات وفي عقولهم نقص ، فرسول الله صلىاللهعليهوسلم مع صفاء عقله ، وسلامة طبعه عن الآفات أحق أن يثقل عليه ؛ فيحزن لذلك.
ثم ما من إنسان ينسب إلى الكذب فيما يحدث عن نفسه أو عمن سواه من الخلائق ممن علت رتبتهم أو انحطت إلا وهو يجد لذلك ثقلا ، فكيف إذا أخبر [عن] الله تعالى وكذب فيه ، أليس هذا أحق أن يثقل على القلب ويتحزن له؟!
ويجوز أن يكون حمله على الحزن شدة إشفاقه على المكذبين ؛ لأن تكذيبهم يفضي بهم إلى العطب والهلاك ؛ فأشفق عليهم باشتغالهم بما به هلاكهم ، وحزن لذلك.
أو يكون حزنه غضبا لله تعالى ؛ إذ الرسل كانوا يغضبون لله تعالى ، ويشتدون على أعدائه.
والجواب عن قوله : إن المكذبين كانوا من أعدائه ، فكيف اشتد عليه تكذيبهم ، وذلك أمر غير مستشنع (٧) من الأعداء؟ فنقول : إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان يعاملهم معاملة الولي مع
__________________
(١) في أ : لا يشتد عليه.
(٢) في ب : وكقوله.
(٣) في ب : على.
(٤) في ب : الكذوب.
(٥) في أ : مستحقّا.
(٦) في ب : كان.
(٧) في أ : مستبدع.