بالله تعالى ، وعلم الغيب من أعظم آيات رسالته.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً) فالذي يغص ، ولا يقدر على ابتلاعه ليس بطعام في الحقيقة ، وقال : (لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ) [يونس : ٤] والحميم ليس بشراب في التحقيق ؛ ولكن سمي الأول : طعاما ؛ لأنه يمضغ مضغ الطعام ، والصديد والحميم يسيلان سيل الشراب ، فذكر في الأول طعاما ، وفي الثاني شرابا لهذا.
ولأن الطعام اسم لما يطعم ؛ فهو مطعوم ، وإن كان كريها ، والحميم مشروب وإن كان في نفسه كريها.
ثم الأصل أن الكفرة بكفرهم تركوا شكر نعم الله ـ تعالى ذكره ـ وقابلوها بالكفران ؛ فأبدل الله تعالى لهم في الآخرة مكان كل نعمة نقمة ؛ ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا) [الإسراء : ٩٧] ، فأبدلهم مكان البصر عمى ، ومكان السمع صمما ؛ لتركهم شكر ما أنعموا من البصر والسمع واللسان ، وأبدلهم مكان اللباس قطرانا ، ومكان المراكب : السحب إلى النار على أقدامهم ووجوههم ؛ فكذلك أبدلهم مكان الطعام والشراب زقوما وحميما ؛ لتركهم شكر نعم الله تعالى.
وقوله ـ عزوجل ـ : (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً).
قد ذكرنا الرجفة في غير موضع.
وقوله : (كَثِيباً مَهِيلاً) ، أي : رملا سائلا ؛ ففيه إخبار عن شدة هول ذلك اليوم ؛ لأن الجبال من أصلب الأشياء وأشدها في أنفسها ، ثم يبلغ هول ذلك اليوم مبلغا لا يحتمله الجبال مع شدتها وصلابتها ، فالإنسان (١) الضعيف المهين أنى يقوم لشدته وهوله؟ فذكرهم حال ذلك اليوم ؛ ليرتدعوا ، وينتهوا عما هم عليه في التكذيب والضلال.
قوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (١٥) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (١٦) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (١٧) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (١٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً)(١٩)
وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً).
قوله : (شاهِداً عَلَيْكُمْ) قال أبو بكر الأصم : تأويله : مبينا لكم ما لله تعالى عليكم من الحق.
وجائز أن يكون (شاهِداً عَلَيْكُمْ) ، أي : لكم وعليكم جميعا ؛ فيكون على الكفرة شاهدا بقوله : (وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ) [النحل : ٨٩] ، ويكون للمؤمنين شاهدا ، وقد
__________________
(١) في أ : فإن الإنسان.