سَبِيلِ اللهِ) [المائدة : ٥٤] ؛ وذلك لأن الجهاد فرض على المسلمين بعد الهجرة إلى المدينة ، ولم يوجد منهم الضرب في الأرض في حال كونهم بمكة ، وفي هذا إخبار عن جهاد طائفة ، وعن ضرب بعض في الأرض ؛ فثبت أن نزول هذه الآيات كانت بالمدينة.
واحتجوا ـ أيضا ـ بقوله : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) ، قالوا : إن الزكاة إنما فرضت عليهم بعد ما هاجروا إلى المدينة ، وفي هذا أمر بإيتاء الزكاة ؛ فثبت أن نزولها كان بالمدينة ، وأما أول السورة فهي في موضع المحاجة على أهل الشرك ، ولم يكن بالمدينة مشرك ؛ بل كانوا أهل كتاب.
ومن ذكر أنها كلها مكية ، فهو يحمل قوله : (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) على الوعد والبشارة ، ليس على الإيجاب والوجوب ؛ ألا ترى إلى قوله ـ عزوجل ـ : (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى) ، فأخبر أنه سيكون منكم مرضى ، لا أن كانوا مرضى في ذلك الوقت ؛ فلم يكن فيما ذكر دلالة كونها مدنية.
ثم الآية إن كانت على الوعد ؛ ففيه أنهم كانوا في ضيق من العيش ، وكانوا من القوم في خوف ؛ فيكون فيه بشارة أنه يرفع عنهم الضيق بما يضربون في الأرض ، ويوسع عليهم العيش ، وأنه يفتح لهم الفتوح ، ويكثر أنصارهم حتى يقهروا العدو ، ويقع لهم من ناحيتهم الأمن ، وقد آل الأمر إلى ما بشروا به ، فيه](١) آية رسالته ـ عليهالسلام ـ إذ أخبرهم عن علم الغيب ، وكان الأمر على ما أخبر.
ثم قوله ـ عزوجل ـ : (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى) في موضع الاعتلال ، أنه إنما خفف عليهم الأمر بما ذكر من الأعذار من المرض ، والضرب في الأرض ، والمجاهدة في سبيل الله تعالى ، والتخفيف إذا وجب لعذر مما لم يلاق العذر حالة الفعل ، لم يخفف ؛ فكيف خفف عنهم قبل وقوع الأعذار ، ولكن هذه الأعذار وإن تحققت [هي لا تلاقي الفعل](٢) ؛ بل تتقدمه ؛ لأن المجاهدة تكون بالنهار (٣) ، لا بالليل ، وكذلك الضرب في الأرض وقت النهار لا الليل ، والقيام كان بالليل ليس بالنهار ، ثم قد وضع عنهم قيام الليل وإن لم يكن العذر ملاقيا للقيام ؛ فعلى ذلك جائز أن يرفع عنهم القيام بالليل وإن لم يأت بعد وقت المجاهدة ، ولا كان الضرب موجودا ؛ إذ ليس في ذلك كله إلا عدم ملاقاة العذر حالة القيام.
__________________
(١) من أول قوله : «الفعل ، بل تطابقه» إلى هنا سقط في ب.
(٢) في ب : وهي تلاقي الفعل.
(٣) زاد في ب : و.