شهيدا بائعا نفسه لله تعالى ؛ على تفضيل وترغيب للعباد (١) في مثله ؛ لقوله : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ) [التوبة : ١١١].
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ) معناه : تجدوه حاصلا لكم ، وإلا فكل شيء تقدمونه من خير أو شر تجدونه حاضرا في ذلك اليوم ، ولكن الشر يكون عليهم ، قال الله تعالى : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً) [آل عمران : ٣٠] ، وقال ـ عزوجل ـ : (لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) [الكهف : ٤٩].
وقوله ـ عزوجل ـ : (هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً) ، وفي حق الكلام أن يقول : «هو خير» ؛ لأن «هو» يرفع ما بعده ، ولكن «هو» كالفصل هاهنا ، وحقه الحذف ، وإذا حذف انتصب الكلام ؛ لأن معناه (٢) : تجدونه عند الله خيرا لكم مما خلفتم ، فيكون «خيرا» مفعولا.
ثم قوله ـ عزوجل ـ : (هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً) يحتمل أوجها :
أحدها : أنه خير لكم ، وأعظم أجرا مما خلفتم لورثتكم ؛ فيكون فيه أن الذي يخلفه لورثته له فيه خير ، ولكن ما يقدم لآخرته خير له ، والذي يدل على أن له فيما يخلفه لورثته خيرا قوله ـ عليهالسلام ـ : «إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم فقراء يتكففون الناس».
والثاني : أن المرء في الشاهد قد تسخو نفسه ببذل [الأموال] للآجلة الآجلة لما يأمل منهم من المال الثواب العاجل ، فيكون في قوله : (هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً) ترغيب للعباد في تقديم الأموال لوجه الله تعالى ؛ لأنهم إذا رغبت أنفسهم في بذل الأموال للآجلة ؛ طمعا للمنافع التي تحصل لهم ؛ فكان بذل المال لوجه الله تعالى أعظم في الأجر ، وأولى أن يقع فيه الرغبة.
ولأن النفس قد تتحمل المكروه في الشاهد لمنافع تأملها في ثاني الحال ، فإذا طمعت لما تبذل لوجه الله تعالى الثواب الجزيل والأجر العظيم خف عليها تحمل المكروه ، والذي يناله بالبذل.
ويجوز أن يكون قوله ـ عزوجل ـ : (وَأَعْظَمَ) بمعنى : عظيم ؛ إذ قد يستعمل حرف «أفعل» في موضع «فعيل» ؛ كما يقال «أكبر» (٣) بمعنى : «كبير» ، والله أعلم.
__________________
(١) في ب : العباد.
(٢) زاد في أ ، ب : أن الذي.
(٣) في ب : لكن.