وأن البعث يقع على الأنفس الروحانية ، ولو كان كما زعموا ، لم يكن لقوله : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) معنى ؛ لأن العظام لا تجمع على قولهم بعد ما صارت رميمة ؛ فيكون الأمر إذن على ما وقع في حسبان هذا الإنسان ؛ فلا معنى للرد عليه بقوله : (بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) ؛ ألا ترى أن الذي حمله على الإنكار لجمع العظام بعد تفريقها هو أنه لم ير هذا موجودا في الشاهد ، ولو كان الأمر على ما زعمت الباطنية ، لكان الإنكار مدفوعا ؛ إذ وجد النفس الروحانية مبعوثة في الشاهد بعد توفيها ، وقال [الله](١) تعالى : (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) [يس : ٧٩] ، فأخبر أن الأنفس التي أنشئت أول مرة هي التي تحيا ، لا غير.
وقوله ـ عزوجل ـ : (بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) :
فمنهم من حمل هذه الآية على الابتداء ، وزعم أنه ليس فيها جواب لما يقتضيه قوله ـ عزوجل ـ : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ).
ومنهم من ذكر أن قوله : (بَلى) ، جواب لقوله : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ) ، فاكتفى بقوله : (بَلى) بما سبق منه من الدلالات والحجج على القول بالبعث ؛ فاقتصر على قوله : (بَلى) على الوصل بما تقدم من الدلالات.
ومنهم من جعل جوابه في قوله : (قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) ، معنى تسوية البنان : هو الجعل من عظم واحد ، مجموعا غير متفرق ، مثل خف البعير ، وحافر الدواب (٢).
ووجه الاستدلال : أنهم أقروا بأن الله تعالى قادر على [أن يسوي](٣) البنان ؛ لما رأوا التسوية موجودة في الدواب ، ثم الجمع بعد التفريق أظهر وجودا وأيسر فعلا من تسوية البنان ؛ ألا ترى أن المرء في الشاهد قد يقدر على التأليف والجمع بين أشياء متفرقة ، ويعجز عن تسوية البنان ؛ فإذا كانت التسوية أعسر وجودا من الجمع بعد التفريق ، ثم وصفوا الله تعالى بالقدرة على تسوية البنان ، فكيف أنكروا قدرته على جمع العظام بعد تفريقها؟ تعالى الله عما يقول الظالمون علوّا كبيرا!!.
ومنهم من يقول بأن الله تعالى لما لم يسو بين بنان الإنسان ، وسوى بين بنان الدواب ؛ ليصل إلى الأخذ والإعطاء ، وإلى التقديم والتأخير ، والقبض والبسط ، وأنواع المنافع التي
__________________
(١) سقط في ب.
(٢) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٣٥٥٣٩ ، ٣٥٥٤١) وعبد الرزاق ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٦ / ٤٦٤) وهو قول عكرمة ، ومجاهد ، والضحاك ، والحسن أيضا.
(٣) في ب : تسوية.