والرأس وغير ذلك ، وفيها نفس أمارة بالسوء ؛ فتصير جوارحه كلها بصيرة ، أي : شاهدة عليه بما قدم وأخر.
وجائز أن يكون هذا على الإضمار ؛ فيكون قوله : (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) ، أي : نفس الإنسان بصيرة بما عملت.
ثم من الناس من يثبت للجوارح العلم بما كسبت نفسه ؛ حتى تصير شاهدة عليه يوم القيامة بقوله : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [النور : ٢٤] ، ولو لم يكن لها العلم بما قدمت نفسه ، لكانت لا تشهد بما لا تعلم.
وليس الأمر عندنا على ما زعموا ؛ لأنها لو علمت بذلك ، لكان صاحبها يصل إلى العلم من جهتها ؛ ألا ترى أن القلب لما ثبت له المعرفة ، وقع لصاحبه العلم من جهته ، وكذلك السمع لما حصل (١) فيه السمع ، وقع لصاحبه علم المسموع به ، ولما كان بعينه يبصر الأشياء كان علم البصر واقعا من جهتها ؛ فلما لم يقع له العلم بيديه ، ولا برجليه ، ولا بشيء من جوارحه سوى القلب ـ علم أنه لا حظ لها في المعرفة ، ولكن جعلت هي شاهدة وحجة يوم القيامة تشهد على صاحبها ، بما يحدث الله تعالى فيها علما ضروريّا بذلك ، لا أن كان لها علم بالذي شهدت قبل ذلك ، كما جعلت نطوقه في ذلك الوقت ، لا أن كان النطق فيها موجودا من قبل ، والله أعلم.
قوله تعالى : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ)(١٩)
وقوله ـ عزوجل ـ : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) :
هذا كلام مبتدأ منفصل عن الأول ، وذكر أهل التأويل أن جبريل ـ عليهالسلام ـ كان إذا أتى نبي الله صلىاللهعليهوسلم بالوحي ، فكان لا يفرغ من آخر آية حتى يقول نبي الله ـ عليهالسلام ـ في أولها ؛ مخافة النسيان ، على ما عليه عرف الخلق أنهم إذا أرادوا وعي الكلام وحفظه ، كرروها بألسنتهم ؛ كي يضبطوها ولا ينسوها ؛ فكان النبي ـ عليهالسلام ـ يفعل ذلك (٢) ؛ خشية النسيان ؛ فنهي عن ذلك بقوله : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) ، وهو كقوله : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) [طه : ١١٤].
وهذا عندنا مما لا يجوز أن نشهد على رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه كان يحرك لسانه قبل مجيء
__________________
(١) في أ : جعل.
(٢) في ب : كذلك.