أو يتذكر في أن يتلهف على ما فرط في جنب الله من التقصير في حقوقه ، والتضييع الذي سبق منه حيث لم يشكر نعمه ، ولم يوجه إليه العبادة ؛ فيكون تلهفه ذلك إيمانا ، ولكن لا ينفعه تلهفه في ذلك الوقت ؛ لأن تلك الدار ليست بدار امتحان ، بل هي دار جزاء ، والذي يحمله على التصديق مشاهدته الجزاء والحساب ، وعند المشاهدة ترتفع (١) المحنة ، ويكون إيمانه ذلك ضروريا لا حقيقة ؛ فلذلك لا ينفعه ، وإنما ينفعه الطاعة وقت ملكه نفسه ، فأما إذا خرج ملك نفسه من يده ، لم يقع له بالإيمان جدوى.
وقال بعضهم : (يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ) ، أي : يتعظ ، (وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) ، أي : أنى له الانتفاع بالموعظة.
ثم في هذا التذكير بيان لطف من الله تعالى بعظته حتى يتذكر ، وإلا فالإنسان يذهب عليه ما قد كتبه في وقت إذا أتى عليه حين ، حتى لو أراد أن يتذكر وقت كتابته لم يقدر عليه ، ثم الله ـ تعالى ـ يذكره في الآخرة جميع ما سبق منه في الدنيا فيتذكر (٢) ذلك ؛ فيقول : (يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) ، أي : يا ليتني قدمت لنفسي حياة تسلم لي ، أو حياة تبقى لي لذتها ، فهذا هو تلهفه وتذكره في ذلك اليوم ، يتلهف على ما فاته من الخيرات ، ويندم على ارتكابه المعاصي وكفرانه نعم الله تعالى.
ومعنى قولنا : حياة تسلم لي ؛ فأتلذذ بها : هو أن الكافر ، وإن كانت له حياة في الظاهر ، فإنما حياته للتعذيب ، فتلك له في الحقيقة ليست بحياة ، بل هي إهلاك ؛ ألا ترى أن الإنسان إذا أخذ في النزع فهو في ذلك الوقت حي بعد ، لكن حياته للإهلاك ، فليست هي في الحقيقة حياة لكنها إهلاك فعلى ذلك حياة المخلد في النار.
وقوله ـ عزوجل ـ : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ. وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ) :
قرئت هذه الآية على نصب الذال والثاء (٣) ، وعلى الخفض فيهما :
فمن قرأهما على الخفض فهو يحتمل وجهين :
أحدهما : أن العذاب في الدنيا وإن اشتد من الملوك على الإنسان ، فهو لا يبلغ عذاب الله تعالى لأعدائه في الآخرة وإن خف.
أو (لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ) ، أي : لا ينبغي لأحد في الدنيا أن يعذب أحدا بعذاب الله ـ
__________________
(١) في ب : لا تقع.
(٢) في ب : فيذكر.
(٣) رواها مالك بن الحويرث عن النبي صلىاللهعليهوسلم أخرجه سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن مردويه ، وابن جرير ، والبغوي ، والحاكم وصححه ، وأبو نعيم عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٨٨).