استقبلهم بالخلاف ، ولم يكن معه فضل مال وسعة يستميل به قلوب الناس ؛ فيقول أولئك الكفرة : إن ربه قد خذله وتركه وقلاه ، حيث بعثه إلى من ذكرنا من الفراعنة والجبابرة الذين كانت همتهم القتل وعادتهم إهلاك من خالفهم بلا أنصار ولا أعوان من الملائكة ، ولا مال وسعة (١) يستميل به القلوب والأنفس ؛ لأن من سلم إنسانا إلى أعدائه الذين يعلم أنهم أعداؤه ، ويخلي بينه وبين الأعداء بلا أنصار وأعوان ولا مال وسعة من الدنيا ـ يقال : إنه قد خذله وتركه وقلاه ؛ إذ لا يفعل ذلك في الأصل إلا لذلك ؛ فعند ذلك قالوا : إنه ودعه وقلاه ، وهو ما قالوا : (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً. أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها) [الفرقان : ٧ ، ٨] ، وقولهم : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١] ، ونحو ذلك مما قالوا ، فلو لا صرف أهل التأويل تأويل الآية إلى ما ذكروا ، وإلا صرفه إلى ما ذكرنا أشبه.
وفي قولهم : «قد ودعه [ربه]» (٢) دلالة أنهم قد عرفوا أنه رسول [الله صلىاللهعليهوسلم](٣) وأقروا بذلك حتى قالوا ؛ فنزل قوله : (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ).
والثاني : أنه لو كان يخترع على ما كانوا يقولون أولئك ، لكان لا يحتبس عن الاختراع ، ويكون يخترع أبدا ؛ حتى لا يقولوا : «إنه ودعه» ؛ فدل ظهور احتباس الوحي :
أنه عن أمر يخبر ، وأنه مأمور بذلك ، ثم أخبر أنه لم يبعث إلى هؤلاء الفراعنة والجبابرة لما ذكر أولئك الكفرة أنه خذله وتركه وقلاه ، ولكن بعثه وهو ينصره ويعينه على تبليغ ما أمر بتبليغه إلى من أمر بتبليغه ، ولم يقله ، ولكنه اصطفاه واختاره ؛ حتى يعلو أمره ، ويكثر ذكره ، وفي ذلك آية (٤) عظيمة على إثبات الرسالة ، وهو ما ذكرنا أنه بعث إلى من همتهم القتل والإهلاك لمن خالفهم ، فقهرهم جميعا ، وغلب على الكل حتى أظهر الإسلام فيمن قرب منه ومن بعد.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) :
يقول : مع ما أعطيت في الدنيا من الشرف والذكر والغلبة على الفراعنة ، فالآخرة خير لك من الأولى ؛ يرغبه في الآخرة ، ويزهده في الدنيا.
أو يقول : إن أولى لك أن يكون سعيك للآخرة ؛ فهو خير لك من الأولى ، وهو
__________________
(١) زاد في ب : أن.
(٢) سقط في ب.
(٣) سقط في ب.
(٤) في ب : لأنه.