والجواب عن هذا : أن هذه الآية إنما نزلت بقرب من مبعث رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، والقوم بأجمعهم كانوا أهل كفر وخسار ؛ فلذلك وقع الاستثناء على ما ذكر ؛ إذ استثناء القليل من الكثير هو المستحسن عند أهل اللغة ، وإن كان القسم الثاني في حد الجواز ، والقرآن في أعلى طبقات الكلام في الفصاحة.
ثم قوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ الْإِنْسانَ) اسم جنس ؛ فكأنه أراد : جميع الناس ؛ ألا ترى أنه قال : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) ، ولا تستثنى الجماعة من الفرد ؛ فكأنه يقول ـ على هذا ـ : إن الناس في أحوالهم واختياراتهم في خسر إلا من كانت تجارته في تلك الحالة ما ذكر.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) يحتمل أن يكون تأويله : الصالحات التي كانت معروفة في الكفر والإسلام من حسن الأخلاق وغيره ؛ ألا ترى أنه قال : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [آل عمران : ١١٠] ، نقول : المعروف هو المعروف الذي هو معروف في الطبع والعقل ، والمنكر الذي ينكره العقل ، وينفر عنه الطبع.
وإن كان المراد منه : الكفر ، فكأنه قال : إن الكافرين في هلاك وخسار ، إلا من آمن بالله تعالى ورسوله وعمل صالحا.
ثم في هذه السورة ذكر الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وكذلك ذكر الصالحات في سورة «التين» (١) ، وترك ذكر الصالحات في سورة «الكبد» ؛ فكأن (٢) الله ـ تعالى ـ ذكر الصالحات في تلك السورة ؛ لما قد كان ذكرها قبل ذلك ؛ ألا ترى إلى قوله ـ تعالى ـ : (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) [البلد : ١٤] ، وغير ذلك.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) : الحق في الأصل كل ما يحمد عليه فاعله ، والصبر : هو الكف عن كل ما يذم عليه فاعله ؛ فكأن التواصي بالحق تواص بكل ما يحمد عليه ، والتواصي بالصبر تواص عن كل ما يذم عليه.
ثم [في] ظاهر قوله ـ تعالى ـ : (وَالْعَصْرِ. إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ..).
الآية ـ ما يوجب أن من لم يجمع بين هذه الأشياء التي ذكرها (لَفِي خُسْرٍ) ؛ فيكون ظاهره حجة للخوارج والمعتزلة ، إلا أن الانفصال عن هذا ـ والله أعلم ـ : أن الله تعالى وعد الجنة لمن جمع هذه الأشياء التي ذكر في هذه الآية ، وذكر الإيمان مفردا في آية أخرى ، ووعد عليه الجنة ؛ فلا يخلو وعده الجنة عن الإيمان المفرد في تلك الآية من أحد
__________________
(١) في ب : والتين.
(٢) في ب : وكان.