بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) [الحجرات : ٢] ؛ فلا يجوز أن يمتحن بهذه الكلفة الشديدة والمحنة العظيمة إلا بما شرح الله تعالى صدورهن ويفسح قلوبهن ؛ لاحتمال ذلك.
ثم المحنة علينا بعد هذا أشد من المحنتين اللتين ذكرناهما ؛ لأنا امتحنا بمعرفة ما ضمنته هذه الآية والاعتقاد بذلك (١) وهي (٢) قوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) فالذي علينا من المحنة أن نصرف الأمر إلى وجه لا يلحق رسول الله صلىاللهعليهوسلم به ثم بنقص ؛ فيسلم من المؤاخذة ؛ فجائز أن يصرف إلى ما ذكرنا من تخفيف الأمر على رسول الله صلىاللهعليهوسلم فتكون الآية في موضع تخفيف الأمر عليه ليس في موضع النهي ، وإن خرجت مخرج النهي في الظاهر.
وجائز أن يكون العتاب ؛ لمكان مارية ، إن كانت [قصة التحريم](٣) من أجلها ؛ لأن رسول الله صلىاللهعليهوسلم لما أذن له بإمساك مارية ، ولم يندب إلى تزويجها لتصل إلى قضاء شهوتها من قبل الأزواج ، فإنما تتوصل إلى قضاء شهوتها برسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ثم هو بتحريمها على نفسه لم يمنع عنها الحق ، إذ الأمة لا حظ لها في القسم ؛ فيلحقه العتاب من هذه الجهة ، ولكن لما كان لها فيه مطمع ، وهو بالتحريم قطع طمعها ، فقيل له : (لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) قضاء تلك الشهوة ، أي : لم تمنع نفسك عن قضاء شهوة أباحها الله تعالى لها ، فيكون في العتاب دعاء له إلى [أن يعمل](٤) بأحد الوجهين :
أحدهما : وهو أن يوصلها إلى ما طمعت منه لا أن يقطع طمعها عنه ، وإن لم يكن لها فيما طمعت حق ، والله أعلم.
والمحنة الثانية علينا : ألا ننسب إلى أزواج رسول الله صلىاللهعليهوسلم ما تكره أنفسنا نسبة مثله إلى الأمهات ؛ لأن لأزواجه علينا حق الأمهات ، فإن أمكنا أن نخرج من أمرهن وجها يسلم عن تنقصهن فعلنا ، وإلا أمسكنا عن ذكره ؛ خشية التنقص ، وترك التبجيل والتعظيم ؛ ألا ترى إلى قول الله تعالى : (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً) [النور : ١٢] ، وهكذا الواجب على كل مؤمن ألا يظن بأزواج رسول الله صلىاللهعليهوسلم ورضي عنهن إلا خيرا ، وألا ينظر إليهن إلا بعين التعظيم ، وقال أيضا : (سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ) [النور : ١٦] ، وإذا كان هذا حقهن علينا فلا يجب أن نذكر زلتهن كانت كيت وكيت ؛ لما يتوهم أن يكون زلتهن دون الذي خطر على بالنا فنكون قد أعظمنا القول
__________________
(١) في ب : لذلك.
(٢) في أ : وهم.
(٣) في أ : القصة.
(٤) في ب : العمل.