قال ابن عرفة : قدم المغفرة على الرحمة مع أن الرحمة سبب في المغفرة ، فأجابوا بأنه يعتبر تقديم الرحمة باللزوم وتأخيرها بالمطابقة ؛ فيفيد الدعاء بها مرتين.
قوله تعالى : (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ).
إن أريد الرحمة الحقيقية في نفس الأمر فلا اشتراك فيها بوجه ، وإن أريد الرحمة باعتبار الظاهر فيعقل فيها الاشتراك.
قوله تعالى : (وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا).
قال ابن عرفة : تقدم لنا فيها تمسك للمعتزلة بأن السيئات لفظ عام يتناول الكفر وسائر المعاصي ، فقوله تعالى : (تابُوا). راجع إلى التوبة مما سوى الكفر ، وقوله تعالى : (وَآمَنُوا). راجع إلى التوبة مما سوى الكفر من المعاصي فكان تأسيسا ، وعلى مذهب أهل السنة يكون تأكيدا ، قال : وأجيب بأن الشيء في نفسه ليس هو كغيره ، فقوله (وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ). متصفون بالإيمان مع السيئات ، وقوله (ثُمَّ تابُوا). أي : تابوا مع تحصيلهم الإيمان ، وقوله (وَآمَنُوا). أي : آمنوا إيمانا خالصا لا يشوبه عمل سيء بوجه ، فلذلك كرره ، قال : وتقدمنا سؤال وهو لأي شيء لم يقل : والذين أساءوا ، كما قال تعالى (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) [سورة الجاثية : ١٥ ـ سورة فصلت : ٤٦] ، أو كان يقول : من عمل صالحا فلنفسه ومن عمل سيئا فعليها ، قال : وتقدم الجواب بأن التقبيح تارة يرجع إلى المفعول ، كما تقول : تأكل مال اليتيم ظلما ، وتارة يرجع إلى الفعل ، كما تقول : كيف تأكل بشمالك.
وتقبيح المفعول يستلزم تقبيح الفعل ولا ينعكس ، فقوله تعالى : (وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها.) تعيين الأعم فيتناول الأخص من باب أحرى لأنه إذا كان عليها مطلق إساءة فأحرا ما فوقها ، وهنا عبر بالأخص فيستلزم الأعم لأنه إذا كان غفورا رحيما لمن مات بعد اتصافه بأخص القبيح ؛ فأحرى أن يغفر لمن تاب بعد اتصافه بما دونه في القبيح.
قوله تعالى : (ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها).
قلت : وتقدم لنا في الختمة الأخرى أن العطف هنا يتم لأجل أن من تاب بأن اقترافه بالمعصية أخف ممن تاب بعدما تمالأ عليها وأصر عليها ؛ فأتى بثم ليفيد أن توبة هذا الثاني مقبولة فأحرى الأول ، وقوله (مِنْ بَعْدِها). أتى به رفعا للمجاز ؛ لأنه يحتمل أن يكون تابوا بعدما عملوا أو سموا تموا بفعلها.
قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِها).