فيه رد على من يقول : بجواز أن يرد في القرآن ما لا يفهم [٧٤ / ٣٦٨] قوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ، فإن قلت : فيه دليل على أن العقل ليس معلوم ضرورة ، فمن يجهل ذلك فإنه غير عاقل خلاف قول أبي المعالي : قلت : ليس مراد أبي المعالي العقل الذي يقع به التمييز ، وهو شرط في التكليف ، لأنه محصل للعلم ضرورة ، وإنما مراده العقل الشرعي الجعلي النافع.
قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ).
وجه مناسبتها لما قبلها ، أنه لما قدم ذكر الصديقين والمصدقات ، وما أعد الله لهم من الأجر ، دلت هذه الآية على أن من دونهم ينال أجرا عظيما قريبا من أجرهم ، ففيها إرجاء وإطماع لسائر المؤمنين إن أريد إيمان خاص فيكون هؤلاء أعلى منهم منزلة ، والصديق في اللغة يقتضي أن المراد الذين صدقوا بالله تصديقا بعد تصديق ، وليس المراد هنا بالصديق ما يقوله المتصوفة من أنه أدنى رتبة من النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم لأن ذلك اصطلاح وليس بلغة ، وهذا موافق لما يقول المنطقيون : من أن التصديق راجع للجمع ، والتصور للمفردات ، فإذا قال الإنسان في نفسه العالم حادث فهو عندهم تصديق لا يتصور ، وأن لم ينطق به ولذلك اعتقدوا الإيمان بالله ورسوله ، وعبدوه تصديقا لكن هذا راجع لما يخبر به الرسول ، وهو أمر مسموع ، فهو تصديق للخبر ، لأنه راجع لحدث النفس ، ابن عطية : والصديقون باب لغة الصدق ، أو التصديق وفعيل لا يكون إلا من فعل ثلاثي ، وأشار بعضهم إلى محبة من غير الثلاثي ، وقال : مسك من أمسك ، وأقول أنه يقال : مسك ، وفي هذا نظر ، انتهى ، النظر الذي هو فيه أنه يقال : مسك ولم يذكر الجوهري في الصحاح وإنما ذكر أمسك ، وانتقد ابن مكي : في تثقيف اللسان على الأطباء قولهم : القوة الماسكة ، قال : إنما القوة الممسكة من أمسك فدل على أنه لا يقال : أمسك عند ربهم أن رجع إلى المبتدأ ، فالمراد في حكم ربهم ، وإن رجع لما بعد ، فالمراد لهم أجرهم عند ربهم حقيقة ، وإضافة الأجر إليهم تعظيم لهم ، وقال قيل : (وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ) ، فاكتفى هنا بوصفه هناك ، فسر الزمخشري الآية بقوله (أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ)(١) ، فسوى بينهما في الأجر ولأنه من الالتفات ، فأجاب : بأن أجر المؤمنين مضاعف مساو لأجر أولئك غير مضاف ، انتهى ، ولا يحتاج إلى هذا لأن المماثلة تكون في النوع ، وفي
__________________
(١) وردت في المخطوطة : (أولئك هم مثل الصديقين والشهداء) ووردت في المصحف : (أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ) وقد أثبتنا ما في المصحف.